منذ أن قرأت "حديقة الحيوانات" و"1984" قبل أكثر من ثلاثة عقود حتى نفرت من كاتبهما الروائي البريطاني جورج أورويل نفور السليم من الجرب، والحق انني قرأت الروايتين المذكورتين بدافع الشهرة التي تمتعت بهما، والدوي الملحوظ لاسم أوريل في المحافل المحلية والاقليمية والدولية، ولعل في الضجة الكبيرة التي ما زالت تثار حول أورويل وروايتيه اشياء كثيرة قبيحة، ولأبدأ مما اعتبره قبيحاً في هذه الضجة، ثم أتناول الروايتين نفسهما.

ولد جورج أورويل في بريطانيا عام 1903 وتوفي عام 1950. وقد تلقى تعليمه الاولي والثانوي في بلاده. وخلال عمره القصير سافر الى بورما وعمل هناك أمداً قصيراً كضابط شرطة، ولكنه لم يلبث ان استقال من عمله بسبب نفوره منه، حين اكتشف ما يجري فيه من "تعسف استعماري" كما يسميه هو بالذات، لأنه يعد نفسه في ذلك الوقت اشتراكيا ديمقراطيا. وهكذا عاد الى موطنه وكرس معظم وقته للكتابة.

أما التهمة الموجهة اليه في محكمة التاريخ فهي الخيانة، تماماً كما وجهت تهمة الفاشية الى الشاعر الامريكي الشهير عزرا باوند في وقت متقارب نسبياً. ومن الطبيعي القول: ليست جديدة تلك الشبهات التي تنشب احياناً حول سلوك بعض الادباء والفنانين عامة، في سياق انتفاضة الشعوب ضد حكامها الطغاة، فهم لم يكونوا حتماً مع هذه الانتفاضة او الثورة كما حصل مع باوند تحديداً. ولكن خيانة أورويل معروفة لا لبس فيها عند مشاركته في الحرب الاهلية الاسبانية في ثلاثينيات القرن العشرين، بين انصار الجمهورية والجنرال فرانكو الدكتاتور الذي استولى على الحكم اخيراً ولأكثر من عشرين سنة، إذ ساند أورويل الجمهوريين في البدء، ثم انقلب عليهم كما توحي تبريراته في كتابه الذي اصدره في ما بعد تحت عنوان "تحية الى كتالونيا" مدعياً بأن ثمة تهم سياسية قد وجهت اليه يمكن تسميتها خلافات في وجهات النظر لا تنحط الى درك الخيانة.

ان هذه التبريرات المظللة لم تستخدم في كتابه المذكور فقط،  بل استخدمت في كتابه الآخر "تجارب، مقالات، رسائل" حينما لمح الى اليساريين الذين  يلفقون ضده معلومات باطلة موجهاً نقده الصريح والشديد اليهم، باعتبارهم ظلوا متضامنين مع النظام الستاليني – حسب قناعته – المفرط في قسوته واحتكاره الوحشي للسلطة القائمة على عبادة الفرد!

غير ان الادانة الكبرى التي اصابت سمعة أورويل في الصميم صدور كتاب عنوانه "نصر أوريل" من تأليف كاتب يساري سابق اسمه كريستوفر هيتشز، كشف فيه معلومات سرية توصل اليها، وخلاصتها ان المخابرات البريطانية استخدمت امرأة فائقة الجمال لإغراء أورويل ودفعه الى الوشاية بأسماء معارفه من الشيوعيين المتسترين، وقد نجحت المرأة الجميلة في مسعاها كما يبدو، إلا ان عدداً من الكتاب دافعوا عن هذه الواقعة بأن دوافع أورويل كانت وطنية، حرصاً منه على انقاذ بريطانيا من الانزلاق الى حكم شمولي شبيه بالنظام السوفيتي أو النازي، كما ادعوا ايضاً بأن هيتشز كان يكره أورويل كل الكره.

أورويل بعد وصيته

جاء في وصية جورج أورويل بند يتعلق بالكتابة بعد موته، إذ أوصى بألا يكتب أحد تاريخ حياته. وقد ظل هذا الجزء من البند محترماً حتى سنوات قليلة مضت، عندما بدأت تظهر بعض الكتب التي تترجم لحياته، ومن هذه الكتب تظهر بوضوح شخصية أورويل: رجل  أقرب الى الحزن وأسرع استجابة لدواعي الاكتئاب منه لدواعي الفرح، رقيق وعاي الحس بمشاعر الناس بل والحيوانات، شديد  الحاجة الى الوحدة، قد يقضي شهوراً في جزيرة منعزلة لا يكاد يرى فيها أحداً، وان كان بالساعات يراقب حركة الطيور. قليل النجاح مع النساء، بسبب خجله وحبه الوحدة، او ميله الى الحزن أو بسبب شعور دفين منذ الصغر بأنه ليس وسيماً او جذاباً للنساء. أهم شيء عنده الصدق، وهو أم الفضائل في نظره، بل لعله الفضيلة الوحيدة، و إنه يرى مهمة الكاتب ان يتجاوز ويتغاضى عن كل ما يحجب حقيقة الامور، وكل ما يتظاهر به الناس ويحاولون به حجب الحقيقة: ما يرتدونه من ملابس او مجوهرات، التشدق بما ليس فيهم، الاسلوب المعقد والملتوي في الكتابة، العاطفية الزائدة والمصطنعة في التعبير عن النفس، الشعارات السياسية الكاذبة.. الخ، كل ما يجب ان يهمله الكاتب ويتغاضى عنه حتى ينفذ مباشرة الى حقيقة الامور: حقيقة الناس والمشاعر، حقيقة النظم السياسية.

في النتاج الروائي

جاء في بعض المصادر ان لأورويل روايتين سابقتين لـ "حديقة الحيوانات" و "1984" الاولى "أيام في بورما" والاخرى "محاولة لاستنشاق الهواء" ولا أعتقد انهما قد ترجمتا الى العربية. ولا أغالي ان قلت إن العالم كله لا يعرف او يقف عند تينك السابقتين بقدر ما يحتفي ويتذكر روايتيه اللاحقين، خصوصاً في العالم الغربي الذي استثمرهما في الدعاية المعادية للاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي ايام الحرب الباردة، تحت ذريعة براغماتية تقول: ان جورج أورويل كان متعاطفاً قوياً مع صغار الناس والمستضعفين في الارض، ولكنه منذ اشتراكه في الحرب الاهلية الاسبانية فقد ثقته بالماركسيين والشيوعيين والدولة السوفيتية، ومن المؤكد ايضاً انه فقد للأبد أي وهم يتعلق بالاعتقاد بان حل مشكلة الفقر يمكن ان يأتي على يد "الدولة المستبدة".

وهكذا روج لأورويل، ليس بوصفه روائياً مهماً او كاتباً كبيراً، بل بوصفه مادة ملائمة للدعاية السياسية الغربية المعادية للاتحاد السوفيتي وقتذاك، خصوصاً وهو من طينة العالم الغربي ووحل أزماته الدراماتيكية المتشابكة، قد يضاهي المنشقين المعلنين من العالم الاشتراكي، امثال سولجنستين وبرودسكي ونابكوف وكونديرا.

حسنا، ماذا نجد؟

اولاً في "حديقة الحيوانات" الصادرة عام 1945.

 انها – ببساطة – حكاية خرافية أو رمزية قصيرة لا تختلف عن حكايات الاطفال للاسكندنافي الشهير إندرسون، تتحدث عن مجموعة من الحيوانات تعيش في مزرعة وعن الصراعات التي تدور بينها بهدف سيطرة بعضها على بعض بأسلوب من السخرية اللاذعة، نفهم من خلاله ان الكاتب يقصد انتقاد دولة "استبدادية" متخيلة ليست بمستوى حكايات إندرسون المتماسكة وطرافتها، بل لا ترقى الى كتاب قصصنا العراقية المتخصصين بأدب الاطفال.

وماذا الآن عن روايته الثانية؟

لقد اختار أورويل اسم الرواية "1984" كما يقال، باعتباره الرقم المعكوس الترتيب لرقمي السنة التي  كان يكتبها فيها "1948" وكان قد اختار اسم "آخر رجل في أوربا" ثم غيّره" وربما كان هذا الاسم الذي اختاره في البداية أقرب الى مقصده. فبطل الرواية يدعى "ونستون سميث" في نحو الاربعين من عمره ويعيش في لندن. ولكن لندن ليست مجرد عاصمة لبريطانيا، بل تنتمي الى إحدى الدول الكبرى الثلاث: "أوشانيا" التي تحتل معظم ما كان يسمى في العالم او المعسكر الغربي، الدولة يحكمها نظام شمولي يقف على رأسه "الاخ الاكبر" وتعتبر الدكتاتوريات المعروفة بالمقارنة به كلعب الاطفال. فكل شيء في يد الدولة، وليس ثمة شيء لا يخضع لتخطيطها، والناس فيها كالدمى تحركها اصابع الحزب، كل خطواتك معروفة ومحسوبة.

التلفزيون، ذلك الجهاز القديم، حل محله "التليسكرين" وهو جهاز لا يكتفي بالارسال بل يستقبل حركات الناس وسكناتهم وأقولهم. بل من الخطر الشديد ان تسمح لأفكارك بالشرود إذا كنت في مكان عام أو في دائرة عمل. ومع ذلك يظل "سميث" بكل الرواية حتى آخر لحظة يقاوم تسلط الدولة على حياة الناس وعقولهم ومشاعرهم، يحاول محاولة مستميتة الاحتفاظ بفكرة المستقبل ضد جبروت الدولة وطغيانها، ولكن الرواية تنتهي بفشله، وكان بهذا "آخر رجل في أوربا" يحاول هذه المحاولة. ويمكن للقارئ ان يتصور كيف يكون العالم بعد فشل هذه المحاولة الاخيرة: عالم رهيب، يفقد فيه الناس أي شعور بالحرية، وتسيطر فيه وسائل الاعلام سيطرة تامة على عقول الناس ومشاعرهم، وتوجههم في أي أتجاه ترى الدولة ان من مصلحتها توجيههم اليه.

وبالطبع، كانت فكرة هذه الرؤية رائعة لو وجهت محمولاتها الرمزية والمضمونية الى دكتاتوريات العالم الثالث في آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية، خصوصاً وأن زمن كتابتها قد رافق أوج حركات التحرر الوطني ضد الكولونيالية والدكتاتوريات العميلة لها في القارات المذكورة، ولكن توجهات أورويل في ذلك الوقت إملائية ظرفية ودعائية انتهازية بشكل معلن وصريح ضد قوى الاشتراكية والسلم والتضامن.

استنتاجات أخيرة

لقد حظي جورج أورويل باهتمام واسع من قبل بعض دور النشر العربية، وقدمته قبيل سنة 1984 وإثنائها، وكأنه فتح جديد في عالم الرواية، فنشرت روايتيه المذكورتين بعدة طبعات، من منطلقات يعتقد البعض فيها ان ليس هناك شيء محظور في الفن والابداع، سواء تعلق الامر بالحرب الباردة او الجريمة او العنف او غير ذلك من الاعمال. وحظي باهتمام من قبل بعض النقاد والشعراء والباحثين، فقد قرأت لشاعر عربي معروف يعتقد ان مقاييس الخير أو الشر ليست من صنع الفنان أصلاً بقدر ما هي من صنع البشرية عبر مراحل تطورها، وبهذا المعنى لم يكن جورج أورويل واشياً ولا عزرا باوند فاشياً ولا ابو نؤاس منحرفاً اخلاقياً بالمعنى المطلق، بل كانوا بمعنى من المعاني ضحايا زمانهم، إذا ما اعتبرناهم – على حد قوله – ضحايا اصلاً أو متأثرين به الى حد عميق على الاقل، ولم ينقذهم من التفاهة والركاكة والابتذال الا الفن الذي أبدعوه وظل حاضراً ومطلوباً حتى ايامنها هذه.

وهذه في تقديري مغالطة من هذا الشاعر وتبسيط مخل جداً للقضية وتشويه فضيع للحقيقة التي تجزم بخيانة أورويل أنصاره في الحرب الاسبانية الشهيرة، وفاشية باوند التي ما زالت حتى الولايات المتحدة الامريكية – بلده – تدينه بها حتى اليوم.

وهذا باحث مصري آخر يخلع على جورج أورويل لقب "ضمير القرن العشرين". وهنا من حق المرء ان يتساءل: إذا كان أوريل ضمير القرن العشرين، فأين نضع ضمائر المهاتما غاندي وبرتراند رسل والبرت إنشتاين والام تيريزا ونيلسون مانديلا وبابلو بيكاسو، وضمائر الكثير من أمثالهم من الذين كرهوا العنف وشجبوا الحروب، ووقفوا الى جانب الفقراء، واحتقروا الكذب والدعاية السياسية، وغضبوا لأي مساس بكرامة الانسان، ولم يروا أي مبرر للتمييز بين الابيض والاسود أو لتفضيل الأوربي على الآسيوي او الافريقي، او للرجل على المرأة، وحلموا بمستقبل جميل للجميع، وعبروا عن كل ذلك بفصاحة مؤثرة وفعالة.

هؤلاء هم ضمير القرن العشرين، ولا بد يكون جورج أورويل بعيد جداً أو جد بعيد عن ذيل القائمة.