يسترجع فيلم المخرج أندريا سيفري بحنان حياة الامين العام للحزب الشيوعي الايطالي للفترة 1974-1978 إنريكو بيرلينغير ومحاولته الوصول الى " التسوية التاريخية " مع الديمقراطيين المسيحيين، وهي محاولة أو مسار علينا أن نتعلم منه الدروس دون ارتكاب خطاً تاريخي .

عُرض الفيلم في صالات العرض الفرنسية في 8 اكتوبر/تشربن اول من هذا العام، ولكن القبة البيضاء لمقر الحزب الشيوعي الفرنسي، كولونيل-فابيان، كانت قد شهدت عرضه الاول في 22 سبتمبر/ايلول، وقد صمم هذا المبنى المهندس المعماري البرازيلي أوسكار نيماير, غصت القاعة، ذات المظهر المستقبلي وهي تقوم برحلة الى الماضي، بوجوه حزينة وهي تحدق بشاشة العرض الكبيرة.

المشاهد الأخيرة للفيلم تنتهى بجنازة بطله إنريكو بيرلينغير، الشخصية التي ربما يغيب اسمها عن الكثيرين في عالم اليوم، رغم انه كان في طليعة مغامرة سياسية فريدة من نوعها، حشدت الجماهير والناخبين كما لم يفعل غيره في أوربا، وقد كرمته هذه الجماهير بمشاركة 1.5 مليون إيطالي في جنازته التي سارت في شوارع روما إثر وفاته المفاجئة عام 1984.

في هذا العام وفي القاعة التي كانت سابقا مقراً لللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفرنسي، تتحدث الابتسامات المعبرة عن حنيني للماضي، وعن الاثر الذي تركه إنريكو ما وراء حدود جبال الألب.

يمثل فيلم "الطموح الكبير" بالنسبة للشيوعيين القدامى تجربة عاشها جيلهم، تاريخ "الشيوعية الاوربية" التي انضم اليها جورج مارشيه، سكرتير الحزب الشيوعي الفرنسي، قبل أن ينتهي الى التصلب في الهوية الذي كان مدمرا للحزب.

الكثير من الشيوعيين القدامى غمرهم الانفعال وهم يتحدثون عن الأزمة غير المسبوقة التي يواجهها اليسار في فرنسا، حيث لا تمتلك الكتلة التي شكلتها الجبهة الشعبية سوى ثلث المقاعد في البرلمان الفرنسي، وكان الحال مشابها في ايطاليا آنذاك إذ لم يكن له الأكثرية في البرلمان الإيطالي، في حين يشهد اليمين حالة من الوحدة.

الأداء المقنع للممثل إيليو جيرمانو الذي قام بدور إنريكو، والمزج بين مقاطع التمثيل والمقاطع الحقيقة المستمدة من الأرشيف الوثائقي، جعل الجمهور ينشد الى مسيرة إنريكو بتعاطف واضح، وجعلهم يقيسون الفجوة بين حال اليسار اليوم وبين ما كان متاحا من الامكانيات آنذاك في إيطاليا. فالفشل في محاولته للوصول الى السلطة، التي انتهت الى الاصطدام بالمؤامرات والعنف السياسي، وبدورة لم تنته أبداً، والتي توجت بصعود اليمين المتطرف الى قمة السلطة في ايطاليا، هو أمر على وشك أن يحدث قريبا في فرنسا.

<< أنه فيلم حزين، لأن القصة تنتهي نهاية مأساوية، ولم ينجح بيرلينغير في تحقيق ما أراد، لكن الاغاني الحزينة تُسعدك، هذه هو الفيلم، أنه ذكرى قائد شيوعي حاول >>، هذا ما ذكره فريدريك جينيفي، المؤرخ ورئيس متحف التاريخ الحي في مونتروي، الذي دعم الفيلم وشارك في كافة العروض والمناظرات حوله.

من ناحية اخرى، يُظهر فيلم "الطموح الكبير"، زعيماً شيوعيا نجح في اقامة علاقة وثيقة مع الشعب دون أن تكون له خلفية عمالية، وكان على رأس حزب يواصل الصعود في الانتخابات الى الحد الذي أثار قلق الولايات المتحدة الأمريكية حينها في خضم الحرب الباردة. زعيم  حرص على تحرير نفسه بشكل واضح من وصاية موسكو بحجة المسارات "الوطنية" نحو الاشتراكية. أن المشاهد التي نراه فيها يلامس اكتاف المسؤولين السوفييت ولغتهم الميتة ممتعة للغاية.

تتوافق هذه الجوانب الرائعة مع اختيار المخرج أندريا سيفري، للتركيز على الفترة من 1974 الى 1978 . << يعلق هوغ لو بايج، الذي ألف مؤخراً كتابا بعنوان "الإرث المفقود للحزب الشيوعي الايطالي" صدر في 2024 ، كانت تلك الفترة ذروة الحزب من الناحية الانتخابية  وكان عدد اعضائه يتجاوز 2 مليون عضو، وكان آنذاك القوة السياسية الصاعدة في ايطاليا، كان هناك أمل كبير بأن يصل الحزب الشيوعي الايطالي الى السلطة على المستوى الوطني وليس فقط على المستوى المحلي>>.

كانت هذه الفترة مليئة بالمخاطر، وهو ما يُظهره الفيلم بوضوح. حدد بيرلينغير استراتيجيته مُستلهما انقلاب الجنرال بينوشيه في تشيلي في 11 سبتمبر/ايلول 1973 ، الذي اطاح بحكومة الوحدة الشعبية بقيادة سلفادور اليندي . كان القلق من رد فعل استبدادي في حال وصول الحزب  الى السلطة مدفوعا بالهجمات الفاشية التي انتشرت في مختلف انحاء ايطاليا ، وساهمت ايضا جماعات اليسار المتطرفة والتي ادانها الحزب .

جميع هذه العناصر هي التي دفعت بيرلينغير للدفاع، في الصحافة ووسائل الاعلام الحزبية ، ثم خارجياً، عن مشروعه الشهير " التسوية التاريخية " . إذا تُرك شكلها مفتوحاً، فالأمر يتعلق بأقرب تقارب ممكن مع الحزب الحاكم، الديمقراطي المسيحي. وللنجاة من ضربات الرجعية، حتى مع تحقيق نتائج انتخابية جيدة ، فأن الرهان هو ممارسة السلطة بالاعتماد على القوى الشعبية في اليسار السياسي والنقابي، بل ايضا في العالم الكاثوليكي .

اما في فرنسا، فأن التحديات في تشكيل حكومة اقلية في عام 2025 ، واوامر " التسوية" التي تم تداولها في الاشهر الاخيرة،  فأن السياق يظل مختلفا تماما.

<< يوضح روجر مارتيلي ، المؤرخ ومسؤول سابق في الحزب الشيوعي الفرنسي، والذي التقى بيرلينغير في أواخر حياته :  كانت الديمقراطية الإيطالية آنذاك في بداياتها، بعد عقدين من الحكم الفاشي. ويضيف كان الحزبان الشيوعي الإيطالي والديمقراطي المسيحي يشتركان في نضالهما معا ضد ديكتاتورية موسوليني ، وكانت الجمهورية التي وُلدت من رمادها ثمرة عملهما المشترك. كان رهان برلينغير ذا خلفية قلقة مرتبطة بموجة الهجمات المزدوجة من اليمين واليسار المتطرف ، ولكنه كان ايضا ذا خلفية تفاؤل بأن ذكرى المقاومة ستسهم في تحقيق النصر >>.

<< يوضح لوران ليفي ، وهو ناشط شيوعي كان في العشرينيات من عمره وقت الاحداث ومؤلف كتاب " تاريخ التنازلات" صدر عام 2025، عن التجربة الشيوعية الاوربية في فرنسا، عندما يستخدم بيرلينغير كلمة " تسوية " فإنه يقصد " الالتزام " . انها فكرة أن اليسار يريد النضال من خلال تمرير اتفاق يضمن أغلبية كبيرة ، وأنه لن يحظى بأغلبية بمفرده , هذا درس أساسي من دروس هذا العصر >>.

الدرس الاخر هو أن التسوية لا تُنجز منفرداً ، وإلا فهي استسلام . يتطلب الأمر دائما شخصين لرقصة التانجو، ومن الواضح أن بيرلينغير بالغ في تقدير قدرة الديمقراطي المسيحي في أن يكون شريكا موثوقاً. ومن الواضح اننا نلمس في الفيلم أن الحزب الكاثوليكي متعدد الاجنحة ، جناح يميني بقيادة جوليو أندريوتي الماكر، وجناح يساري أكثر انفتاحاً يجسده ألدو مورو . لكن هذا الاخير كان علية أن يتعامل مع محاورين أمريكيين لم يكن لديهم أئ شك في أن الحزب الشيوعي الايطالي لا يمكن ان يصل الى مفاصل الحكومة .

رغم اختلاف السياق، فمن الصعب ألا نفكر في المشكلة المطروحة حاليا في فرنسا : فمن المستحيل على اليسار أن يشكل حكومة دون توسيع قاعدته البرلمانية لتشمل شركاء يمين الوسط ، ولكنهم  في حاجة إلى امتلاك الوعي التاريخي الكافي للتوحد ضد اليمين المتطرف ، والتخلي عن جزء من تفضيلاتهم الاقتصادية .

أنهار كل شئ عندما اختطف الدو مورو ثم اغتيل على يد الألوية الحمراء عام 1978 ، مما شكل صدمة كبيرة للديمقراطية الإيطالية . اتهم الحزب الشيوعي الإيطالي من قبل مسؤولي الديمقراطي المسيحي  بالترويج ل " ارهاب احمر " الذي لطالما حاربه، على الرغم من تراجع مكانته بين الطبقة العاملة والطلاب لكونه الوحيد الذي دعم الديمقراطيين المسيحيين .

رفض النواب الشيوعيين اسقاط الحكومة بدافع " التضامن الوطني" ولكن بدون أي مقابل " أن الحزب الشيوعي الإيطالي يتحمل مسؤولية مشتركة عن سياسات حكومة أندرويوتي التي لا يستطيع التأثير عليها " هذا ما كتبه هوغ لو بايج في كتابه .

للأسف الفيلم لم يغط حدة النقاشات الداخلية حول هذا الموضوع ، ولم يقدم اي تفصيل لما حدث بين موت  الدو مورو ووفاة بيرلينغير . خاصة خلال هذه الفترة ، أجري الزعيم الشيوعي تقييما نقديا لرهانه الخاسر ، واستكشف مسارات استراتيجية أخرى .

في الفترة الثانية من حياة برلينغير "عاد الى المعارضة وانفتح على قوى اخرى في المجتمع ، ولم يتخل عن فكرة تحقيق اوسع تجمع ممكن حول التحول التحرري " هذا ما اشار اليه روجر مارتيلي .

<< لقد طور فكرة البديل الديمقراطي المبني على ثلاثة ركائز متضامنة والتي لا تزال ملهمة حتى يومنا هذا ، كما يعتقد هوغ لو بايج " المسألة الاخلاقية " وهي الابتعاد عن وضع سياسيين عليهم شبهات فساد، " التقشف" المناهض للرأسمالية  الذي لم يكن مفهوما في ذلك الوقت ، لكنه شكك في نمط واساليب خيارات الانتاج ، " تكوين كتلة تاريخية " مع الحركات السلمية والنسوية والطلبة >> .

في نهاية الفيلم، يبقى هذا الانطباع في عالم حيث كانت ثقافة الزعماء السياسيين على مستوى مختلف عما عليه الان ، وما علينا إلا أن نفكر ونحن نشاهد تطورات بيرلينغير وهو على المنصة ويستخدم لغة "التكنو" . لا تزال الصور الاخيرة للحشد الذي تجمع لحظة اختفاء بيرلينغير تثير تساؤلات حول السرعة التي اختفى فيها الحزب الشيوعي الايطالي في مطلع التسعينيات ، يقول هوغ لو بايج << يمكننا تعداد الاسباب التفسيرية ، ولكن اعترف بانه لا يزال هناك بعض الغموض يكتنف اختفاء حزب يضم اكثر من 2 مليون عضو بين عشية وضحاها، بعد أن تحول الى الليبرالية الاجتماعية دون أن يمر حتى بمرحلة الديمقراطية الاجتماعية الاصلاحية >>.

 ميديابار-اكتوبر/تشرين اول 2025

عرض مقالات: