لم أرك .. فقد أعاقني الوجع ،وعطل ما يعينني على أن أقصد من أُحب ..موفق .. كيف لا يتذكرك المحبون طال بهم العمر أو قَصر . أينسون الليالي وصوتك الشعري الموصول بمن سحقهم الزمن وأحرقت وجودهم نيران تكثفت وازدادت زهوها وهي تسحق الإنسان وتعطل من وجوده ، غير ان الاصوات الأصيلة والمتمسكة بالقانون والعُرف الذي وضعته نصب عيونها في الصغيرة والكبير كان منار وجودهم .لم تثنك المطبات ،بل حرستك عيون من تعرفهم لا بالمباشر أو عبر صوتك الشعري الذي وصلهم مفعماً بالوطنية وعكس هموم الفقراء والمسحوقين تحت وطأة تصورات النفوس المريضة ،وإنما عبر صبرك الذي لو وقع على الصخر لفتته. كتبت وكتبت ،ورأيت وتفحصت كإنسان كبير وشاعر عظيم عرف الحياة ووجعها ،ليس وجعك فحسب ، وإنما وجع الآخرين وخيبتهم في حيازة من يغيّر لهم وجه الحياة .فوجدوا من يراوغ ويراوح في مكانه متصوراً أنه طبع الوجود بالتغير ونصاعة الوجه .إنك تبحث بدأب ،عن هموم غيرك ،في النظر من جهة ومن خلال الحس الذي يشدك إلى الحياة والمبادئ وترى ما لم يره غيرك .
لم أرك يا ملكوت الشعر .. آسفاً ، لكني أُشاركك الوجع الذي كبل جسدك ورأسك فجعلك طريح السرير الذي لا يليق من مثلك .أيعقل أن موفق محمد ،حدوده السرير ؟! ولم تحده طيلة حياته المساحات والمسافات التي تُبعده عن من كان يحب ؟!
سيدي وعاشق العشق والهيمان بالشعر، حيث أتصورك لا تنهل إلا من الشعر والشعر وحده ،ولا توظفه وتسوق رياحه إلا من أجل الأخرين .. فكانت الشوارع والأزقة في الحلة مضاف إليها كل الحواري في المدن التي زرتها ،فما وجدت غير الترحيب والمفاجآت من وصول شعرك إليهم .لم تعق شعرك المسافات .عرفك (سائق التكسي) حين أدرك أن من يصعد إلى سيارته هو (موفق محمد) فما كان منه إلا أن أوقف محرك السيارة ، مغادراً مجلسه وراء المقود ، فاتحاً باب الدخول إلى الشاعر ، حاضناً إياه مقبّلاً وجهه بعفوية مضطربة، فما كان منك إلا ترتيل الشعر الذي تعرف أنه يرغب بسماعه. تحول جوف السيارة إلى قاعة كبيرة لقراءة الشعر ،لاحظنا ابتهاج السائق بهذه الحيازة العفوية لصوت شاعر الفقراء وهو يجلس قريباً منه معتبراً إياها فرصة لا تماثلها كل المنجزات.
أتذكر زيارتنا إلى بيت (آشتي) ونحن نتلمس كرمه وعنايته برفقة دربه شعراً ووجوداً . بماذا أحسست وقتها، فبمثل ما أحسست أنا؟ وهو الشعور بالانتماء إلى الحياة عبر فسحة ( آشتي) وكرمه. لا أذكرك بكل هذا ؟ فأنت العارف بكل ما يتداخل في نفوسنا من الشعر والحديث الطلي ، والصوت الذي يملأ الدنيا صفاء ورغبة ومحبة .أيها الشاعر ،لم أجدك يوماً ولا لحظة وأنت تترجل عن صهوة الشعر ، فصوتك يعبر إلينا أينما حللنا وفرقنا كل إلى حيزه ،وأنت الباقي بيننا .
سرت يا موفق (الشاعر) وسرنا معك في أزمنة لا يملها المرء ولا يطويها النسيان ، فصورتك يقظة ما حيينا ووجدنا .فكلنا أصغاء وإن عبرت بك إرادة الموت المسافات .سؤال يعذبني :ما الذي رأيته في آخر لحظة ؟ سأُجيب على السؤال كما لو أني أنا المغادر ... تجمع الكون بتاريخه وأحداثه والأصدقاء في ملحمة تخطفت على عجالة ، ولم تتمكن من أن تملأ عينيك بهذه الصورة ،فقد تجمع كل شيء في صورة واحدة ،ووقف ممن حولك وقفة الاندهاش .. للحظات لا يدركون ما يفعل كل واحد ، حيث بقي الكل لحظات تسيطر عليهم الدهشة ،وكأنها جمعت التاريخ كله في عينين ساكنتين .إنها لحظة خاطفة لكنها طويلة وواسعة ... يا موفق ابن محمد ابن التاريخ الشعري .لقد وفقت في أدائك للحياة بصورة يحسدك عليها البعض الظالم ،متمنين لو ساووا لحظة واحدة كي تكون لحظتهم . ولك هيهات يحدث هذا ، فالفرق كبير بين الذهب وبقايا القشور التي لا نفع فيها .نم يا صاحبي قرير العين والقلب والذاكرة ،لأنك متحد ومتواصل بذاكرتنا الكبرى .. ذاكرة الوطن لأبنائه الذين أفنوا حياتهم كي يبقى الوطن عزيزاً. سر مع من رحلوا وأنت العارف بهم وبتأريخهم . فهم تأريخك وأنت جزء من تاريخهم المهيب الذي طبعته أحرفهم المضيئة .