كل أمة، لو صدّقنا مؤلفيها، نشعر بالتعاسة على طريقتها الخاصة، أما بالنسبة الى جيورجي جوسبودينوف (سبق لنا أن ترجمنا له قصة (وكل شيء استحال الى قمر) في الثقافة الجديدة-م) في مذكراته الجزئية (مهرِّب القصص) فإن حزن بلغاريا (الحزن يعني تاﮔا بالبلغارية) يقف لوحده، ولا تخلطوه أبدا بحزن (هُزُن) جارتها تركيا أو الحزن البرتغالي (سوداد) :" تلك أحزان أو غُصص امبراطورية، لإمبراطوريات سابقة... تأتي مما كان ذات يوم موجودا والآن مفقود". إن الحزن البلغاري مختلف ويكون بمثابة :" حسرة.. حزن على فقدان شيء لم يكن مملوكا أبدا". يصرح جوسبودينوف بأن بلغاريا في مؤشر مجلة الإيكونومست سنة 2010 عن السعادة العالمية كانت " البلد الأكثر حزنا في العالم".
ولد جوسبودينوف سنة 1968 وقد أدرك بلده الذي ينعم " بالاشتراكية السعيدة" ينحدر في الثمانينيات وينهار. إن فنه القصصي، الذي حاز به في السنة الماضية هو ومترجمته أنجيلا رودل جائزة بوكر العالمية عن روايته (ملاذ الزمن)، يخاطب فيها جيلا ترعرع بين الأنقاض، الأخلاقية والمادية، ذلك الحيز من الزمن يفرقه عن كُتّاب أكبر سنا كميلان كونديرا ولكنه قد يشابهه في عمله الادبي إذ يكتب أدبا حِكَميا ومقاليا وليس سردا قصصيا خطيا، يؤكد راوي (فيزياء الحزن) قائلا :" لست مهتما بالحدود بين الأجناس"، والفن الروائي بعد كل شيء ليس فناً آرياً. استبقت (فيزياء الحزن) 2012 رواية (ملاذ الزمن) 2020 ولكنها تشاركها الكثير من حوافزها الرئيسية. ظهرت ترجمة رودل الانكليزية سنة 2015 في الولايات المتحدة أول مرة وقد ترافق ظهور اسكتشه الشخصي (طفولة في زمن الشيوعية) مع حصوله على البوكر وللأسف فإن هذه الطبعة الانكليزية من (مهرب القصص) تفتقر الى رسوم الطبعة البلغارية للفنان ثيودور أوشيف.
ليس لجوسبودينوف تعامل مع ما يسمونه الالمان (أوستالجي) التي تعني الحنين لماضي برلين الشرقية الشيوعي. عندما كان طفلا حاول اقناع جدته الورعة بأن هناك أوهام مقدسة غير موجودة فردت سريعا :" نعم غير موجودة في بلغاريا التي لا يوجد فيها شيء، حتى زيت الطبخ وفليفلة الدغل". إن أدبه القصصي بالأحرى يسأل كيف، ولماذا، قد تقود حياة الأفراد والمجتمعات حسرة التوق الى ماض متخيل. تخترع (ملاذ الزمن) عيادات تعيد المصابين بالحنين الى العقد الزمني المفضل ويحلمون بماض أوربي فنطازي استعادي. أما (فيزياء الحزن) فتبدأ بقصة خادعة مروية بمهارة تتحدث عن عائلة تربط أفرادها "سلسلة طويلة من الأسرار والكذب". يتحول السرد الى تأمل اهليليجي، حكمي، في حافز لبناء " متحف للماضي" شخصي، والاستقرار في متاهة ذاكرة حقيقية أو مفبركة.
إن أسطورة المتاهة وفي وسطها مخلوق المينوتور برأس الثور تعطي لجوسبودينوف استعارته الكبرى. إن الراوي جيورجي له مع المؤلف نظائر في الحياة، يعرض تاريخ عائلته بوصفه متاهة تفرعات في سلسلة أحداث تتحلق، وتنشطر، وتنعكس. خلال الحرب العالمية الأولى، جده الذي كان طفلا تركته أمه، وقد بقي الخوف من التخلي، تلك الخطيئة التي ترتكب ضد كل الأطفال، يتردد صداها طوال سني حياته. خلال الحرب العالمية الثانية شق هذا الجد طريقه من الجبهة الى هجرة هوميرية (نسبة الى هوميروس)، ولكننا نتساءل هل تخلى عن حبيبة أو طفل وخلفه وراءه في هنغاريا؟ عندما كان جيورجي طفلا تركه أبواه المجهدان في قبو جديه " مينوتورا متوحدا بين جرار الطرشي والمربى"، أصبح الصبي-الثور العالق ضحيةً، مغطسا في "أروقة غير المحكي السود".
تشتغل الرواية بإيحاءاتها الميثولوجية بشكل قاس... كثير القسوة ربما. عندما تبرز شهرزاد في المتاهة يتحلق نوع من ما وراء الأدب القصصي فوق العادي. لقد اعترف جوسبودينوف ببورخس نجما هاديا أدبيا. تعطي الأقسام الأخيرة المينوتور بعض الراحة، و(الساغة) العائلية المتشابكة تتوارى في الخلفية فيما يستكشف جيورجي " الأشياء المتخفية الهامسة المدفونة" التي حثت ساغته.
إن ترجمة رودل التي قد تبدو متشددة بالمعنى العام تتفوق عندما تعود حسرة تلك السنوات على شكل لقطات فوتوغرافية للزمن " محرَّرا من ادعاء الاستثنائية". يصفُّ " فهرس الأشياء المختفية" جوسبودينوف مع أورهان باموك جنبا الى جنب في كتابه (متحف البراءة)، فيما تذكرنا جماليته الباروكية بعمالقة آخرين من هنغاريا ورومانيا. يكتب جيورجي جوسبودينوف بصوت مميز تنقله الينا رودل بمهارة، تهكميا، فطنا، رقيقا، منجذبا الى الاحتفاء بـ" الأشياء الصغيرة وغير المهمة"، وفي الوقت نفسه هو مهتم جدا بالعثور على خيط يقود الى خارج المتاهة.
ــــــــــــــــــــ
المصدر:
Times literary supplement