على خشبة المسرح الوطني الفنلندي، يتواصل حاليا عرض مسرحية (البرتقال) من تأليف الفنان العراقي باسم قهار. ساهم في انتاج العرض فريق عمل متخصص ومحترف، بدءا من المترجم الى اللغة الفنلندية سامبسا بيلتونين، الذي عرف بترجمته للعديد من الاعمال الأدبية والروائية من العربية والفرنسية الى اللغة الفنلندية. تقدم المسرحية شخصان مختلفان، مغنية وشاعر يلتقيان بالصدفة عندما يتعرض الشاعر للضرب في الشارع بعد القائه قصيدة حث فيها المستمعين على التمرد. بعد سنين، تلتقي المغنية المحبطة جانيت، التي هربت من منزلها لتكون مغنية وحطمت الحرب حلمها بالنجومية واضطرت للعمل في الملاهي الليلية، مع الشاعر رباح الذي اصبح مدمنا للخمرة ويعيش حياة بوهيمية وتقوده كتاباته المتمردة الى مستشفى الامراض العقلية، فتساعده للخروج من المستشفى. انهما وحيدان، لكنهما يبحثان عن رابط ما بينهما. انهما مختلفان، هي تبحث عن ماض، تتعلق بالحكايات وهو يهرب من ماضيه. تتذكر جانيت انهما التقطا صورة في حديقة الحيوان، وتتذكر تفاصيل جلسة التصوير وكيف أعطاها برتقالة للامساك بها أثناء التصوير. ينفي الشاعر وجوده في الصورة، وإن تذكر البرتقال. المسرحية لا تحوي حكاية لها بداية ووسط ونهاية. المسرحية عبارة حوار طويل متواتر، استمر لمدة ساعة ونصف بين شخصين يستعرضان أفكارا وصورا ذهنية. أخرج العرض ببراعة الفنان الفنلندي يارنو كوسا، الممثل والمخرج، الحامل لدرجة الماجستير من المعهد الفنلندي المسرحي عام 2012، ويوصف بان مجمل اعماله تهتم بتقديم واقع الانسان بشكل ساخر وقدم اعمالا لفرق مسرحية كبيرة، وعرف عنه أيضا الى جانب التمثيل في عدة اعمال تلفزيونية اهتمامه بالإخراج الإذاعي. نجح المخرج يارنو كوسا في إدارة مسرحية (البرتقال) في عرض فلدّن (من فنلندا!) فيه نص باسم قهار، ليقدم لنا عرضا حزينا مكثف، مترع بالأفكار الفلسفية والشاعرية، لحوار مثقل بالعاطفة بين شخصين كسرتهما الظروف ووضعتهما على الهامش ويعانيان من صعوبة في البحث عن الراحة والحب والتعاطف. قدم العرض ببراعة النجمان الفنلنديان ميري نينونين ونيكو ساريلا. عرف عن الفنانة الفنلندية ميري نينونين بالإضافة إلى عملها وتقديم أدوار مختلفة على خشبة المسرح الوطني الفنلندي، أشتراكها في عروض قدمت على خشبة العديد من المسارح الفنلندية، وكان لها حضور بارز في المسلسل التلفزيوني الفنلندي (ثواني)، أيضا عرف عنها كونها مغنية وكاتبة أغاني، أصدرت ألبومها الأول Everyday Stops في عام 2024.
اما الفنان نيكو ساريلا فيعتبر ضيفا على المسرح الوطني الفنلندي، بعد انقطاع عنه دام عشرين عامًا. وهو ممثل أساس في الفرقة الدائمة لمسرح KOM، المحسوب على قوى اليسار، وعمل لفترة طويلة أيضًا في فرق مسرحية مختلفة، كما قدم العديد من الأدوار السينمائية والتلفزيونية.
كان أداء الممثلين مليئا بدراما قوية وهما يتحاوران عن فرص ضائعة في حياة عاشاها باحثين عن الحب محاولين التمسك بشرارة أمل تمنحهم دافعا للمحاولة المضي قدما. بدا العرض أنيقا، ولكنه مثقلا بالكثير من الأسئلة الوجودية للحياة، محاولا خلق نظرة لطيفة ومقبولة لشخصين اقتلعت الحرب والاستبداد حياتهما. ففي الوقت الذي يحاول الشاعر التعمق في ماضيه الحقيقي والمتخيل مستذكرا بعض أحلامه الضائعة ومعركته ضد عقله المشوش، فأن المغنية التي خسرت كل شيء، لا تزال تشعر بالعاطفة وثمة أمل في هذا العالم ان يعطيها الحب من جديد.
مرونة جسد الممثلين، وحركتهما المرسومة بدقة تصاحبها أنارة ذكية، من تصميم إلكا نيسكانين، شكلت عنصرا مهما في العرض، خاصة ضربات ضوء الفلاش التي حافظت على التدفق الجميل للنص بشكل معبر، مع الموسيقى المختارة والمصممة بواسطة ئيرو نيمينين، فساهم كل ذلك في شد الجمهور لمتابعة العرض والحوار الذي جاء توثيقا للألم والخسارة، لشخصين ينظران للعالم بطرق مختلفة.
في حديث مع المخرج الفنان الفنلندي يارنو كوسا بعد العرض الاول قال للمدى، ان المسرحية تحكي عن مصائر الانسان، ففي الوقت الذي يريد الشاعر نسيان كل شيء، تتمسك المغنية بأصغر الحكايا، انهما مختلفان تماما، لكنهما يبحثان عن ما هو مشترك. فهما إذ يختلفان على أشياء كثيرة، إلا انهما يتفقان على لحظات الصمت. أن تكرار الصمت كثيرا في حوارهما، الذي أكد العرض على ابرازه، يأتي كعامل مشترك لعذابهما وحيرتهما. أغراني اخراج النص، لأني وجدته ليس تقليديا، وأذهلني كونه يتحدث عن هموم كونية يعاني منها الانسان في كل مكان بفعل الحروب والأزمات الاجتماعية.
الفنانة الفنلندية ميري نينونين التي التقيناها بعد العرض أخبرت المدى انها كانت مبهورة بفكرة استخدام البرتقال، كرمز للحياة، للتعلق بالحب، وحين سألت المؤلف عن كيفية اقتباسه للأمر أخبرها بأن صديق له أعتاد دائما تقديم برتقالة في لقائه لحبيبته، وقالت انها عرفت ان بعض مدن العراق مشهورة بانتاج برتقال مميز.
الفنان العراقي، باسم قهار، الذي حضر خصيصا الى هلسنكي، لحضور العرض الأول للمسرحية، قال للمدى: أنه فخور بعرض مسرحية (البرتقال) على المسرح الوطني الفنلندي وأشاد بالعرض، وطاقم العمل، خاصة الممثلين والمخرج، وقال انهما قدما اداء عاطفيا مبهرا، في عرض نصه بروح فنلندية.
وفي الندوة التي سبقت العرض بيوم، في مقهى المسرح الوطني، التي حضرها جمهور عريض من المثقفين ونخبة من أبناء الجالية العراقية في فنلندا، وجرى حوار بين مخرج العرض وكاتبه بحضور المترجم، وعن نصه المسرحي قال باسم قهار انه حاول فيه الخروج من طغيان اللغة، وعرض احداث لا تخضع لسطوة اللغة المستبدة. فالمسرحية لا تبحث في شؤون البلاغة، بقدر ما تعرض احداثا وافكارا. وأكد انه يؤمن بان الأفكار لها اجنحة ويمكنها عبور القارات دون قيود او جواز سفر، من هنا فهو حاول تقديم أفكار عن واقع عراقي تصلح لتقدم في سيدني او هلسنكي، وبين انه يعتقد ان الفكرة الصحيحة تعيش في كل جغرافيا.
ويذكر انه بعد نهاية العرض جرى حفل تكريم لطاقم العمل واحتفاء بمؤلف العمل، شارك فيه المدير العام للمسرح الوطني الفنلندي، وقدمت باقات الورد للعاملين، منها باقة ورد قدمها الكاتب العراقي يوسف أبو الفوز للفنان باسم قهار باسم أصدقائه العراقيين وقال بعد شكر طاقم العمل والممثلين، ان الفنان باسم قهار يصنع التاريخ بكون نصه المكتوب بالعربية أساسا يقدم بالفنلندية كأول مسرحية تُعرض على المسرح الوطني الفنلندي.
ومن الجدير بالذكر أن الفنان باسم قهار المولود في بغداد عام 1962 والمقيم حاليا في القاهرة ويعمل كفنان، تخرج من أكاديمية الفنون بجامعة بغداد كمخرج مسرحي، وأخرج 26 عرضاً مسرحياً من بغداد إلى دمشق، ومن بيروت إلى سيدني. وفي سجله كمخرج العديد من المسلسلات التلفزيونية الى جانب ثمانية أفلام.
* نشرت في المدى البغدادية عدد يوم 25 أيلول 2024