بوعي كامل يصطف حميد قاسم مع القلق، الذي أثاره حادث الحصول على كراس؛ ( في الثانية عشرة من عمري وقع بيدي كراسٌ قديمٌ..أصفر ُ ومبللٌ.. وجدته في صندوق العتاد الاخضر الذي جاء به أخي من “معسكر الوشاش”..) قلق مشوب بخوف من هذا العالم الهش، المتهالك القديم، الذابل المهزول، الضاوي   الذاوي الضعيف.  قلق يسعى من خلاله الكشف عن الوجود الأصيل والحقيقي، سعيا للأخذ بزمام المبادرة حول الجوهر الأصيل والمسؤولية في الإختيار. توّجه ينطوي على محاولة للتعبير عن الوعي أزاء الواقع المحيط الذي يسوّر الذات العارفة، حيث محنة الحياة وتجليّات ( الوجود والعدم)، باعتبار ( القلق الوجودي) بالتعبير الهايدغري، انطلاقا من القلق من الوجود والقلق على الوجود؟!  هاهو ذا يفصح عن الخشية والخوف الذي اصطلاه؛ ( هالني ماوجدت من الرعب والقسوة، ثم جاء الشيخ احمد آل فرج إبن عمة أبي، وأكمل الأنباء السيئة). مترصدا الحيرة  والخشية من التفريط بقيمة الذات إزاء مغريات الانغمار في تجليات الجميع. ليكون الفقد المريع للذات، ليصبح الكائن مجرد صدى لتقاعلات الآخرين.  ليكون الوجود مجرد أوهام وأباطيل وزيف لا جوهر فيه.

كينونة لا إبصار فيها ولانور، ذهول يغطي بظلاله على كل شيء. باعتبار الخضوع للآخر. فيما يسعى حميد قسم بكراسه المبلل إلى عقد حالة من التوازن من خلال منظومة ( الوجود هناك) ، حيث يتمثل الوجود الأصيل من خلال تحقيق الكينونة القائمة على الوجود الإنساني و الكينونة  المنفتحة على الآخر. المستند إلى البحث عن المعنى المرتكز على البحث عن أصالة الوجود، سعيا نحو تمييز الذات الإنسانية ، عن البقية من الأنوات التي توجد في العالم. ليكون السؤال الجوهري و قد تعالق عند النقطة الفاصلة و المتمثلة في الطريقة التي يمكن للذات أن تتعايش مع الآخرين في العالم ، دون أن تخضع للأنماط التي يفرضها الآخر على الذات.

إنه السؤال القائم على أهمية تمييز التفّرد، و العمل على تحقيق الوجود الأصيل، النائي بنفسه عن السقوط الهايدغري في تفاعلات و تجليات الآخر، و سلبه لإرادته.  (لم جعلتني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ؟) السقوط هنا يتخذ أحوال الوجود في العالم، و هو يتمثل البعد التداولي في صميم العالم. حيث المسعى للتحقق من العلاقات التي تتفاعل في الواقعي و المعاش. سقوط ينطوي على تفاعل و حضور ، لا ضياع أو تغييب أو انهيار. حيث الموّجه الأهم المستند إلى القلق بحساب الوجود في العالم. ومن هنا تحديدا يكون مسعى حميد قاسم للبحث عن جوهر وجوده من خلال اجتراح مرثية للروح؛ ( ولما كانت روحي تهم بالخطايا وتشتهيها منذ صباي.. فقد بكيت كثيرا لأني لن أكون مع أمي في الجنة...!!) .

الشاعر هنا يلفظ أحوال الاستغراق في اليومي المبتذل، متطلعا بكل ما فيه للنأي بنفسه عن المكرور و الشائع و البسيط و السهل. ساعيا في مناكب أسئلة شديدة التعقيد قوامها الغور في تفصيل النشأة و التكوين  و أصل الوجود و الحياة و الثواب و العقاب . شاعر يتجاهل الوجود الزائف، حيث النبذ لكل ما هو  صوري و دعي و كاذب و مغشوش و متظاهر. مسعى يقوم على ازاحة كل ما هو مدع و مزور و مزيف و منخدع و رديء و مغشوش. الشاعر مؤمن حد اللعنة بأهمية  مواجهة سؤال الحياة و الموت ، حتى لو كلفه كل ما يملك . يخوض في نعمة السؤال الجوهري  دون الالتفات إلى ما توفره حصانات الجماعة .  ( بكيت كثيراً لاني لم أرد لكَ ان تكونَ قاسيا..فلم أنت قاسٍ يا أبانا... ؟) مستعد هذا الشاعر أن يبذل روحه من أجل رسوخ الجوهري و العميق و الدال في صلب قوام الوجود الأصيل. إذ لا تنفك الوصايا تفعل فينا الافاعيل، و تعمل فينا تمزيقا و تقطيعا لا يعرف التوقف أو السكون. إذ يحضر الميتذل و السطحي و الزائف بكل ما فيه، عامدا إلى تمزيق الجوهري و الحقيقي و الأصيل. سوح يقوم على كسر التابوهات وتمزيق نسيج الجاهز من الأنماط الراسخة. حتى لو كلف الشاعر الخروج إلى العالم بما يستر العورة. بلى لا مكان للشاعر في هذا العالم دون مشاركة الآخرين الأفراح و الأتراح ، الأحزان و المسرات. و لكن دون استلاب الإرادة، بعيدا عن الوصاية و القهر و الهيمنة و الأبوية المفرطة.

إنها الصرخة التي يطلقها الشاعر،  سعيا نحو تحقيق الوجود المنقّى من شوائب تحويل العالم إلى مجرد ( ذاتي و موضوعي) الأمر هنا يقوم على تحديات أكثر انفتاحا و أشد اتساعا، من دون السقوط في جلبة البحث عن الذات. بقدر ما يكون التطلع نحو تمييز مفصل الخيط الرفيع الذي يحقق معادل الوجود،  بكل جوهره و رسوخه و تأثيره. حميد قاسم في كراسه الأصفر القديم المبلل، يتملى في المحمولات الثقافية، يتفرسها بعين الأنثروبولوجي تارة، و الفيلسوف الوجودي تارة أخرى، و المحلل النفسي و الناقد الأدبي صاحب الدربة و الخبرة. و المبدع المستند إلى الخيال، و المثقف العضوي المشتغل في الفضاء العام.

إنه يجترح عملا من نوع ( قصيدة السؤال المركز) . حيث التوجه بكل تبسيط و واقعية للإمساك بخيط السؤال الشائع و المتداول، و العمل على تمييز مدارك العلاقات الجوهرية فيه، بعيدا عن المواراة و التزييف. قصيدة تنطوي على تفعيل مجال الرمزي، و السعي نحو تثمير الإنساني بعيدا عن الرؤى و التصورات و الأيديولوجيات و الرهانات و التحديات. بقدر ما يقف حميد قاسم تحديدا على تمييز مفاصل لحظة ( الشعور الوجودي) . إنه البحث في صميم اللحظة القائمة بين الوجود و العدم. هذا الأخير الذي يحكم نهاياتنا، و جلّ الحقائق التي تقوم عليها الحقيقة التي نؤمن بها، و تتجلى فيها ذواتنا التي تعيش تفاصيل العالم.

تلك اللحظة الفاعلة التي يتجسد فيها قلقنا و طريقة تعاطينا حول مسألة ( الوجود في العالم) . هذا بحساب أن وجودنا مرهون بلحظة الموت اليقينية. وهكذا تتبدى للعيان أحوال ( قلق الوجود) الذي يتبدى في كراس قديم أصفر ومبلل. كما هي أوضاعنا ودنيا العيش التي تخترقنا في الصميم. حيث الأحوال والأهوال. والنفرة و الهجوع. في الملاذات التي نحسبها آمنة، حيث المسعى نحو استجماع أحوال الحنين إلى الماضي، و التشبث بالأماني المجهضة، ليجعل منّا الوجود مجرد طرائد سهلة المنال للوقوع في حبائل الزائف و الوقتي و المبتذل. ( في نهاية خمسينياتي، وقع بيدي كراس قديم، يرشح دما وأنيناً لاينقطع، وروائح لاتطاق..) .