منذ أزمنه موغلة في القدم وحتى يومنا؛ تمكنت السلطات الاستبدادية المهيمنة على الشعوب من تأسيس طرق و مخططات اجرائية لإدامة و تطوير قدراتهما، اهما واوسعها فاعلية يتمثل بالجهل، مما عملوا على ترسيخه ، بل اصبح الجهل و التجهيل صناعة تمتلك استراتيجيات بأدوات متنوعة . تحقق له فاعلية في اثره و مؤثراته بحسب متغيرات الحياة و تنوعها. اذ ما لبث للجهل ان يُصَير علماً تستثمرهٌ مراكز بحثية و تعمل على تناميه . بإرساء سلوكيات جمعية ما تلبث ان تحال الى (اشتراطات سيكولوجية) بفعل ترسيخ(المقدس)الساذج، لاسيما في خلق تابو (بوميثوسيسيولوجي) في الذات الجمعية ، كل ذلك ساهم في اخماد التطور العلمي الحضاري بتحقيق المبتغى الخفي في الخنوع و الاستسلام .
فما الجهل وما انواعه؟ وكيف يمكن ان يحال الى نظم مبرمجه وما أدواته؟ ومتغيراته في تنوعها و مواكبتها للتحولات الحضارية العلمية المتنوعة وكيف تبرمج استراتيجيات التجهيل في منطقتنا العربية، وهل من سبل للتصدي التي لابد ان نعمل عليها؟
في الاجابة عن ما ذكر انفاً نحرص ملامسة الخطاب الاكاديمي. ان موضوع بحثنا في ( استراتيجيات الجهل و التجهيل). يعتمد كشف ما يعد مخفياً بقصد او دونهِ ، منها حرصنا على ان لا نقدم (الجهل و التجهيل) بوصفه منحسراً بفقدان المعلومات المعرفية الصحيحة بمستويات التعليم المختلفة، على الرغم في اشكالية التثبت من ماهية الصحيح او عكسه امر فيه اختلاف، الموقف مستمر ونسبي مع كل نظم المعرفة واتجاهاتها ، ومن مستثمرات (استراتيجيات التجهيل) هذا الاختلاف الطبيعي بفعل تنوع المرجعيات . ان تمركز مفهوم الجهل يتمثل بذاك التخريب الذهني المُتَعمد ، عندما يكون الانسان خارج (النسق الحضاري) الذي يحتاج الى تعريف ابتداءً من النسق بعده سلوك و ممارسة تبدأ من الوعي في فهم ماهية الوجود وبنية الحياة المعاش فيها بما تمتلك من معادلة ذهبية تؤسس لمنطق التحضر ،تتمثل في ضرورة معادلة لابد ان تُعتَمد: (ليس من الضرورة ان تكون انتماءاتي هي ذات انتماءات الاخر)، و من ثم ( ليس من الضرورة ان تكون مفاهيم والتزامات و عقائد الاخر مطابقة لانتماءاتي و عقائدي ) ، بل (ان الاختلاف الذي يؤسس لجدلية الحوار يثري المعرفة وينمي الوعي الجمعي) . بذلك اتضح المعنى بما نقصد (بالنسق الحضاري) ، بعده خارج المتداول الشائع في اسر الجهل بما هو خارج منظومات المعارف المتداولة في علوم الدراسة و التعليم ،فما نؤكده ان الموقف لا يؤسر الثقافة والنسق الحضاري بالمعلومات الدراسية و الأكاديمية، حتى لو كانت بأعلى عناوين الشهادات الجامعية ،اذ من الممكن أن يقبع حامل هذه العناوين في جهل وسلوكيات متخلفة، بالمقابل يمكن من لم يحقق هذه العناوين المدرسية و الجامعية من امتلاك مستوى من الوعي الحضاري الذي يضعه في تصنيف المثقف العاقل في اعلى مستويات الثراء حضاري .
وعليه فان (الثراء الحضاري) يتمثل ب :
أ ــ وعي بموضوعية وضرورة العيش مع الاخر حتى وان كان الاخر مختلف معه في الانتماءات العقائدية و المذهبية والدينية و العرقية . بذلك يكون (المتخلف الجاهل) هو من يؤمن ان انتماءاته المذكورة تمثل القيمة المطلقة العليا، باعتقاد وهمي ساذج انها يمكن ان تمنحه صفات فوقية على من هو مختلف عنه في العرقية و المذهبية او مخالف في رؤى فكرية ، فيتعامل معه بسلوك متدنٍ.
ب : ان ثقافة المساواة و ضرورتها في تأكيد العيش مع الاخر المتنوع يحقق ثراء اقتصادياً و ثقافياً، بل يبني صورة حضارية تتجدد مع النمو و التحول في المجالات الحياتية المختلفة ، وعكسها يولد تقوقع و تراجع حتمي في النمو .
ج ــ العاقل المثقف من يؤمن ان (الحقوق و الواجبات) متساوية بين الكل لا تميز و علو لاحد على الاخر حتى من هو في مفارقة كامله عنه ، فالأخر انسان يمتلك كل حقوق دون نقص او تهميش ، بينما الجاهل وان امتلك اعلى الشهادات الجامعية يجد الامر لابد ان يحقق له تميز ما .
د ــ المثقف من يؤمن (ان الواقع و فهم الوقائع متحركة لا يمتلك الثبات المطلق) ، حتى ما يؤمن به يمكن ان يصيبه التحول و التغيير ، بينما الجاهل من يصر ان المبادئ والافكار ثوابت لا يمكن تغيرها او تحولها من حال الى حال .
ه ــ ان التحول والتطور او التغير في اي فكرة او مفهوم حتى العقائد لا يمكن لها الصمود ، فضلا عن ان التحول و التغيير في بناها امر يعد ضمن الضرورات لمواكبة النمو الحضاري الحتمي في كل بنى الوجود .
و ــ العاقل من يسمع ويستقبل بشفافية الرأي الاخر ، ثم يفكر بما يسمع حتى و ان كان مخالفاً وعلى الضد لما يؤمن به ، بينما الجاهل من اغلق عقله رافضاً للأخر المخالف له، في هذا السلوك جهل مدقع حتى وان امتلك شاهدات جامعية عليا .
ان (الجهل قرار و اقرار) يبدأ بذات الانسان ينتقل في برمجة موجهة لقيادة (الانا العليا) لتحقق التقبل والقبول ، ومن ثم يتحقق (استعمارها ) من اصحاب المصالح ، ليضعوه مع قطيع مصنع بتراكم زمني، هؤلاء المتحذلقين يعملون على بناء قاسم مشترك بين منطلقات الجهل و ثقافة المتلقي باعتماد نظم و مؤسسات صنعوها و حققوا ديمومتها بأيهام قدسيتها .
فمن هم اصحاب المصلحة في صناعة الجهل و بناء استراتيجياته؟
هنا لابد ان ندخل مدخلا تاريخيا لان هؤلاء تطوروا بتغيير الياتهم و انشطروا بمتغيرات التاريخ ونمو الحضارة الانسانية .
قطعاً ان مصنعي الجهل وبناة استراتيجياته يصنفون بالقلة التي تمتلك :
أ : مهارات الاقناع . منها صناعة الترهيب و الترغيب و عروض لحماس تمثيلي انفعالي مفعم بدراماتيكية لا تخلو من اثار سيكولوجية تعتمد معظمها على مرجعيات ميثولوجية.
ب:امكانية قراءة مناطق الضعف في الاخر ، وتقويض الثقة الذاتية عند جمع متلقي افكارهم لأحالتها الى بديل يتم الارتكاز اليه و اعتماده كمنقذ .
ج : امتلاكهم طاقات برجماتية بمستويات ضحلة من الصور النفعية ،اذ تكشف القراءات التاريخية لهؤلاء ( مصنعي الجهل و محركي الياته ) الممتد في عمق ازمنة حياة الانسان ،انهم برجماتيون يعتمدون الاثارة بأنواعها باليات ترتكز على قراءة ما هو مخيف مرعب مقابل ما هو متأمل ممتع ، اولها في( تابو الموت) المهيمنة على العقل البشري .
فلو راجعنا بقراءة تحليلية للمهيمنات على فكر الانسان منذ زمن الكهوف و بتتابع تطوره المتسارع ، لتبين ان مركز الهم لدى الانسان يكمن في منطقتين :
الاولى : في استمرار حياته و البقاء على الحياة بكل طاقات الرفاه .
الثانيـة : في وعيه المرعب بحتمية موته .
في هذه المهيمنات تشكلت بنى العقائد و السلوكيات الدينية ، و اسست سيناريوهات درامية لتحقيق اطمئنان سيكولوجي من المصير المرعب .
انطلق الخيال الانساني الخلاق بل المبدع في صناعة ما يريح الانسان و يخمد نار الخوف و الرعب في دواخله ، فأُنتجت أعظم سرديات الميثولوجيا ، من ثم احيلت الى طقوس وسلوكيات تداولية جمعية، ما لبثت ان استُغلت لتحال الى اداة ترهيب، بانبثاق طبقة من حماة و مريدين، ما لبثوا مع التطور ان صيروا (كهان لصروح السماء المفترضة) ، و تنامت قدراتهم البرجماتية ليستثمرو حاجات ورغبات الحكام و الطواغيت بتوافق مصالحهم، مما جعلوا من معابدهم ادوات لإدامة قوة و سلطة الحاكم بتبرير جبروته و منحه صفات ميثولوجيه خارقة تطورت عبر التاريخ ك(الحاكم بأمر الله) معتمدين على مخيلة خصبة في صناعة الحكايات الدرامية ليحيلوها الى مقدسات بلغة مؤثرة تستثمر: