لم نسمع غير هديرِ البحرِ المحاذي للبيوتِ المنتشرةِ والفندق المنعزل عن المدينة ؛ ربما كان المكانُ يليقُ بالتأملِ والكتابة وقد يكونُ هذا تأويلاً مثالياً إذا ماقُورِنَ باستياء المسافرين الآخرين الذين تذمروا من بُعد الفندق عن المدينة وأسواقها مع إنّ المندوبَ عن شركةِ السياحة قد بررَ لهم أسباب اختيار هذا المكان إلا أنه لم يلقَ آذاناً صاغية. كانت نداءاتُ البحرِ قويةً وراسخة مما جعلني أمكث تلك الليلة في الشرفة منتظراً انبلاج الصباح ولم أعرف أنّ العديد من السائحين معنا قد انطلقوا إلى البحر في فجر اليوم الثاني.كان منظرُ البحرِ مذهلاً وهو يقتحم الساحلَ بأمواجه العالية. كنتُ إزاءَ البحرِ مأخوذاً بسحر المكان وجاذبيته.في تلك اللحظة بالتحديد وجدتني استعملُ سبابتي في كتابةِ كلمة (أحبكِ) مع ذكر اسمها بأربعة لغات حية معتقداً أنّ عشاقَ البحرِ الذين سيتقاطرون بعد قليل سيقرأون اسمها ويشهدون على حبي لها وربما سيصرخون مبتهجين بلحظات الفرح الحقيقية وهي تجمعهم بحميمية البحر؛ غير أنّ الأمواجَ المتهاديةَ كانت تتقدم وتجرفُ الحروف ولابد من الابتعاد قليلاً كي أكتبَ عبارةً أخرى قد تكون بعيدة بعض الشيء عن مداهمة مياه الساحل ثم شرعتُ أصرخ مناشداً البحر وأنا اتقدم بخطواتي الواثقة معانقاً أمواجه (أحبكِ)وكأنني كنتُ متأكداً من إنها سترد؛ ولفرط عجبي سمعتُ صوتها يأتيني من الخلف، التفتُ مذهولاً وقلتُ في نفسي ربما عاودتني تهيؤاتي السمعية من جديد، ربما لأنني أفكرُ بها كثيراً وأحببتها أكثر من أية امرأة اخرى.

كنتُ اعتقد أنّ الابتعادَ والقطيعةَ والمسافاتِ أسبابٌ مسوغةٌ لنسيانها إلا أنني خدعتُ بكل ماقيل وروي عن وسائل النسيان وأساليبه.حين التفتُ وجدتها ترتدي خماراً وردياً وثوباً أحمراً رفعت أطرافه وهي تلجُ البحرَ بسيقانها الرخامية. ابتسامتها المشرقة أضاءتِ المكان، إذ تهللَ البحرُ والأشجارُ البعيدة قلتُ لها: أحقاً؟!

أجابت من دون أن تزيح ابتسامتها: نعم.

-كيف وأنا أعرف أنكِ تعيشين بين الجدران؟

-لا تسأل رجاءً، أنا معك الآن.

ثم ضحكت وتقدمت باتجاه المد وأمسكت أطراف أصابعي  وأردفت:أنا سعيدة .

-بل أنا أسعدُ منكِ .

-لِمَ كتبتَ اسمي على رمال الساحل؟

-لأنني أفكرُ بكِ طوالَ الوقت.

-وأنا كذلك، لذا انتهزتُ الفرصة وحجزتُ أول طائرةٍ قادمة إلى حيث أنت.

-لا أعرفُ كيف أشكركِ لأنكِ منحتيني كل هذه السعادات.

-دع عنك ذلك الآن.هيا لنغوصَ في البحر.

تقدمنا نمسكُ بأيدي بعضنا نستنشقُ هواءَ البحرِ الشاسع. تحدثتُ كثيراً بينما هي فضلتِ الصمت والإصغاء، يبدو أنها تعلمت مني هذه الخصلة.قلتُ لها في حينها: كتّابُ القصةِ ينصتونَ دائماً ويقتنصونَ الحكايات.كان شعرها يتطايرُ بينما رفعت ثوبها إلى أعلى فخذيها، تلبسني شبقٌ عجيبٌ وعزمتُ على احتضانها لكنها أبت وقالت: دعنا نوغلُ إلى الأعماقِ. ترددتُ حين أصبح الماء يغمرُ صدري وذراعايّ. -لنتوقفَ هنا.دعينا نعودُ إلى الساحل.

-لا، لا، دعنا نجربُ الغورَ في أعماقِ البحرِ ولنكتشف.

-لنكتشف ماذا؟

-قدرتنا على الصبر.

-أخشى أن نغرقَ سويةً.

-ما أروعَ ذلك.

توقفتُ وسحبتُ يدها لكنها استطاعت أن تفلتها وتمضي قدماً. صرختُ بأعلى صوتي ..إلى أين؟ لوحت بيديها من دون أن تحجبَ ابتسامتها وقالت : سنلتقي قريباً ثم استسلمت لأمواجِ البحرِ الغاضبة.

عرض مقالات: