يعد تصفير الذاكرة تماماً من محمولاتها الماضوية من ولادة ونشأة ولغة ومكان وأنساق ثقافية مختلفة، والبدء من الصفر بتشكيل ذاكرة وهوية جديدتين وفقاً لمقتضيات واشتراطات المنفى/ المكان الجديد، يعد أمراً مستبعداً تماماُ. وذلك أن ما يؤثث الذاكرة، ويكوّن الهوية ليس عوامل آنية، أو ارتجالية، أو إسقاطية، يتم التخلي عنها، أو نسيانها بسهولة، بقدر ما يتم ذلك عبر عوامل طبيعية، محكومة بالامتدادات الزمنية المرحلية، والتأثيرات المكانية، والمكونات الثقافية.. إنها تشبه إلى حد بعيد خطوط الوشم التي مهما حاولنا إزالتها يبقى ثمة أثر ملحوظ على خارطة الجسد، الأمر الذي يجعل من الاندماج والانسجام مع المنفى في غاية الصعوبة إن لم نقل مستحيلاً وهو مايولد مختلف الاختلالات النفسية والوجودية حيث الشعور بالتشظي والضآلة والخيبة واليأس والقلق والخوف المستدام من المصير المجهول: حول هذه الإشكالية، تدور أحداث رواية “أموات في متحف الأحياء” للروائي المغترب شاكر الأنباري. فعبر راوٍ محايث، لاشتراكه في سير الأحداث وسردها في الوقت نفسه، الذي يأتي قادماُ من منفاه الدنماركي لزيارة أحد أصدقائه المغتربين المقيمين في مدينة “لوفان” البلجيكية، وهو رسام يدعى “مرتضى” ويتعرف عن طريق الصدفة على عائلة سورية هاربة من الحرب تتكون من الأب “سام” عازف الغيتار وزوجته وشقيقة زوجته وطفليه، وأستذكار صديقه “نصير” وحكاية مقتله بعد عودته الطوعية إلى بغداد بعد سقوط النظام للقيام بدور تنويري والمشاركة بصناعة عهد جديد، تتكشف مآسي المنفى ومعاناة المغتربين في وسط غريب عليهم من الناحيتين الجيوـ ثقافية، والنفسية حيث:”تجد روحك في أرض الجليد، والمطر، والجزر الصغيرة، الطبيعة تختلف، واللغة تختلف، وأشكال من البشر غير مألوفة تشكلت حياتهم عبر قرون من التراكمات العلمية والثقافية، اينما تلتفت تحس بنفورك عن المكان وعزلتك”. وعلى مستوى الخلاص من كوابيس الماضي، ومسببات هروبه من بلده الأم، يجد المغترب/ المنفي نفسه كما لو أنه يطارد سراباً، متوقعاً في أي لحظة أن تأتيه: “ضربة من الخلف، ذلك الخلف رمز الماضي الثقيل المفاجئ عند الهجوم”، الأمر الذي يجعله في حالة خوف وقلق مستدامين، وتشتد حيرته الروحية عندما يجد نفسه مابين مطرقة الغربة وسندان الحنين إلى ماضيه، خصوصاً بعد “استنفاد التجربة الجديدة” وزوال نشوة تحقق الحلم بالوصول إلى”البيئة الموعودة” تلك البيئة الحضارية المتقدمة التي ستوفر له الحرية والأمان والطمأنينة والعيش بكرامة والتمتع بكافة حقوقه الإنسانية حيث يقع فريسة للملل والانطواء والكآبة، وتصبح كل تجارب العزاء والبحث عن المعدلات الموضوعية للتخفيف من وطأة الاغتراب وتداعياته النفسية لدى المبدع منهم مجرد محاولات فاشلة، فلا الانشغال بالرسم كما هو الحال لدى “مرتضى” ولا الموسيقى كما هو الحال لدى “سام” ولا الكتابة كما هو الحال لدى الراوي، تستطيع أن تعيد إلى أنفسهم التوازن وممارسة حياتهم الطبيعية حيث يجدون أنفسهم في نهاية المطاف يدورون في حلقة مفرغة من المعنى، أما الناس العاديون فلا عزاء لهم سوى العيش في الماضي عبر استدعائه ذاكراتياً واجتراره كلما ازدادت الغربة شدة وقساوة، خصوصاً وأن المغترب العربي أو الشرقي بشكل عام هو شخص عاطفي ومن  الصعب عليه فكّ الارتباط بـ “بيت الولادة” الذي يشكل هويته الشخصية ويحدد سلوكه ومدى قدرته على الانتقال من مكان إلى آخر دون خسائر وجودية جسيمة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*”اموات في متحف الاحياء” رواية شاكر الانباري. اصدار: دار سطور- بغداد.

عرض مقالات: