ثنائية الضحية والجلاد                                                        

منذ اللحظات الأولى للرواية يضعك جمال العتابي امام الرعب والحيرة والمجهول " اين المسار؟"، رعب الهارب من السجن؛ محمد الخلف المعلم والسياسي والفنان، والباحث عن ملاذ أي ملاذ، في المدن والارياف المكتظة بهول المفاجأة، والمخبرين.

ليس جديدا على السرد العراقي ان يتناول النتائج التي تمخضت عن الانقلاب الفاشي في شباط عام 1963 ، وكل سارد اعتمد رؤيته الخاصة في تحليله الآثار التي تركتها الفاشية على الشخصية العراقية ، سواء كتاب القصة القصيرة ام الرواية . والجامع المشترك بين كل اعمال السرد العراقية التي تناولت تلك الفترة هو العلاقة بين الجلاد والضحية من جهة والتمايزات الكبيرة بين الضحايا انفسهم ، فمنهم وهم الكثرة الكاثرة ممن لم يكن لديهم اية علاقة بالاحداث وتعرضوا لابشع أنواع الاضطهاد والتنكيل والتهميش ومنهم من كان طرفا في الاحداث وذهبوا ضحية التحليلات والتقديرات والاوهام الخاطئة .

ومن أبرز ما كتب عن الفئة الأولى من الضحايا هي الاعمال التي أبدعها فؤاد التكرلي وعلى راسها " الرجع البعيد " والتي كانت فيها " الخالة " ضحية العنف والاغتصاب من قبل ابن اختها، وهي رمز لكل الضحايا من الابرياء الذين لم يكونوا طرفا في الاحداث.

ان اهم مايميز رواية " منازل العطراني " انها طرحت رؤيا انصفت فيها الضحايا من الفئتين ، اذ استطاع جمال العتابي بحكم معايشته احداث الرواية التي كان هو طرفا رئيسيا فيها ، ان يجمع بين صدق التجربة الشعورية التي المت به اثناء كتابته الرواية وبين الالمام العميق بخصائص الرواية من الناحية الفنية . فجاء منجزه الإبداعي صورة فنية جميلة لفترة حالكة في تاريخ العراق المعاصر .

محمد الخلف بالرغم من الإحباط والياس الذي طبع شخصيته طوال احداث الرواية ، الا انه يحترم خياره السياسي والفكري اذ " يموت الشجر بجانب البئر عطشا ، لكنه لا ينحني ابدا لطلب الماء" . فشخصية محمد الخلف تجمع ما يبدو متناقضا ، بين الياس والإحباط وبين الصمود والإصرار ، " منذ عقود من الزمن ، كنا بوهم من النشوة والزهو نغمض عيوننا عن رؤية الحقائق ، لم يتجرأ احد من كشف الأخطاء " . " الحياة مع صراع يائس تغدو عبثا ، علينا ان نواجه مصيرنا بثبات . " ان ما يجري اشبه بالعبث واللاجدوى " وفي معرض استذكاره انتفاضة حسن سريع في 3تموز 1963 يقول محمد الخلف " العمر يمر يا محمد، خسرت حلما جميلا  ياوطني ، الجنود الفتية تمكنوا من اعتقال قادتهم ، ما من مغيث لانتفاضتهم سوى الموت يسرق أعمارهم الغضة ". ويعود ليسال " لماذا اسلمنا انفسنا للذبح ؟ لم نعد نقرا في كتبنا سوى اللغو " . " الغزاة دخلوا بيوتنا وافكارنا ، لقد لازمني التعب ، كيف اواجه اهلي بهذه الحال " . اخطاؤنا السياسية والميدانية أسهمت في تبدد الامال وفشل التجربة " .

ومع محمد الخلف يقف ابنه الشهيد عامر وابنه الكبير خالد الذي يحمل في داخله أسئلة لابيه عن معنى التضحية في زمن اعمى " لماذا يموت المرء من اجل فكرة ؟  لماذا يدفع الأبناء ثمن المجد الذي يناله الآباء؟ من اعطاهم الحق بذلك؟ هل اخذوا اذنا بالموت ليرملوا الزوجات؟ ليذهب اولادهم الى التيه؟ .

اما الشخصية الأبرز من فئة المضحين الذين لم يكن لهم أي علاقة بالاحداث الماساوية  فهي الام ( زهرة ) زوجة محمد الخلف التي تمثل المراة العراقية التي عانت الويلات تلو الويلات بسبب تضحيات الأزواج والاولاد والاخوة ، وكانت نهاية الرواية لحظة درامية مؤثرة جدا حيث ماتت الام وعينها على باب الدار تنتظر ابنها عامر الذي غيبه الفاشيون قبل سنوات .

عرض مقالات: