أجتهد في رواياتي وقصصي لعكس تأثيرات الثقافة الأخرى على العراقي المهاجر 

أكتب إلى قارئ ذكي لا يركن إلى الاسترخاء أثناء قراءة روايتي

أجرى الحوار: أمير الخطيب

يوسف أبو الفوز (يوسف علي هداد)، روائي وإعلامي، له تجارب غنية في الصحافة العراقية والعربية وكذلك الفنلندية يسلط الضوء في كتاباته على تأثير الحياة الأوربية على الأجيال المختلفة من المهاجرين واللاجئين العراقيين المقيمين في أوروبا وفنلندا خصوصا الجيل الثاني، إضافة إلى موضوعات التلاقح الحضاري والهوية والجذور وموضوع الجماعات التكفيرية المتطرفة الناشطة في أوروبا وفنلندا وعلاقتها بالأعمال الإرهابية في العراق.. الحوار معه شائق وثري.

*هل تجد الأفضل بالنسبة لك هو كتابة الرواية أم العمل الصحفي، وهل يمكن أن تحدثنا عن تجاربك الغنية في عالم الصحافة وعالم الرواية؟

ــ أدركت مبكرا أن القصة، وبالتالي الرواية هي بيتي، فاجتهدت بصيانة هذا البيت وتأثيثه. كتبت أول قصة قصيرة بمواصفات فنية في الثالثة عشر من عمري. اكتشف ذلك أستاذ اللغة العربية، في الصف الأول المتوسط، بعدها جربت كتابة الشعر والقصة والمسرحية والمقال، عشت حالة من التشتت، حتى التحاقي بالدراسة الجامعية، عام 1975، وممارستي الصحافة بشكل احترافي، والتي ساعدت على اهتمامي بالقصة أكثر. علمتني الصحافة التقاط الموضوع، الإحاطة بالتفاصيل وملاحقتها، تبويب المعلومات وتحليلها، صناعة الأسئلة وبالتالي تعزيز قدراتي في الكتابة. لم أتوقف عن الكتابة الصحفية في كل الظروف والمحطات التي مررت بها، إذ كان مجالا رحبا لقول الكلمة المباشرة بوجه تعسف الأنظمة الديكتاتورية والمطالبة بحياة أفضل للناس. بنفس الاتجاه واصلت كتابة ونشر القصص القصيرة، التي جمعت لاحقا بعضها في مجاميع قصصية صدرت تباعا. لم أتفرغ لكتابة أول رواية إلا بعد استقراري والإقامة في فنلندا التي وصلتها عام 1995، حيث توفرت ظروف عديدة ساعدتني على ذلك، أولها المساحة الواسعة من الحرية، الاستقرار النسبي الذي ساعد في مراجعة مختلف الموضوعات والتجارب، إضافة إلى تراكم الخبرة الأدبية وتأثير الاحتكاك بالآخر. أنجزت كتابة أول رواية عام 2005 واستغرق العمل فيها أربع سنوات، كانت بعنوان (تحت سماء القطب) نشرت عام 2010 عن دار موكرياني في أربيل، اجتهدت فيها لتسليط الضوء على تأثير الحياة الاوربية على الأجيال المختلفة من المهاجرين واللاجئين العراقيين المقيمين في أوروبا وفنلندا خصوصا الجيل الثاني، إضافة إلى موضوعات التلاقح الحضاري والهوية والجذور. تبعها إنجاز رواية (كوابيس هلسنكي)، عام 2008 ونشرت عن دار المدى في دمشق عام 2011، تناولت فيها موضوع الجماعات التكفيرية المتطرفة الناشطة في أوروبا وفنلندا وعلاقتها بالأعمال الإرهابية في العراق. العام الماضي 2021 صدرت لي رواية في القاهرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، في شهر تشرين الثاني / نوفمبر بعنوان (جريمة لم تكتبها اجاثا كريستي) تناولت موضوع موجة الهجرة في الأعوام 2014 ـ2017 من العراق وسوريا إلى أوروبا وفنلندا. وفي كانون الأول/ ديسمبر من العام 2021 صدرت لي في بغداد رواية بعنوان (مواسم الانتظار)، وتناولت حياة ومعاناة المجتمع العراقي تحت ظل حقبة حزب البعث ونتائج الإرهاب السياسي الذي عاشه العراقيون المخالفين للنهج الشوفيني الفاشي لحزب البعث.

* أستنتج هنا أنك في رواية (مواسم الانتظار) تتناول موضوعا سياسيا شائكا، الا وهو تجربة التحالف بين البعثيين والشيوعيين، وإذ يقال أن الانتماء السياسي يلغي الإبداع، فهل توافق هذا القول، وإن وافقت، كيف ترى كونك شيوعيا ومبدعا في آن معا؟

ـ إن انتمائي إلى الحزب الشيوعي العراقي، نابع عن قناعات فكرية وسياسية، وهذا الانتماء عزز كثيرا من شخصيتي ومنحني هوية إنسان وكاتب يضع مصلحة وطنه وشعبه دائما في المقدمة، لهذا أفخر جدا بانتمائي وتاريخي السياسي ونشاطي في مقارعة تعسف نظام حزب البعث الفاشي، حيث تعرضت وعائلتي للكثير من المضايقات والمعاناة، التي أجبرتني لمغادرة وطني عام 1979. ولا أجد هنا تعارضا في كون الكاتب يكون ذا انتماء سياسي فكري، فلا يمكن لأي كاتب أن يكون بدون منهج فكري وسياسي وقضية يعمل ويكتب لأجلها. إن المهم هنا، هو أن لا تغلب لغة التخندق الأيديولوجي على عمل الكاتب فيتحول إلى مجرد طبال وبوق لمواقف أيديولوجية وسياسية تحتمل الصواب والخطأ. وأن الكاتب الحقيقي هو من يخضع نصه للشروط الفنية للكتابة، التي تتطلب منه أن يضع بطاقته الحزبية جانبا، دون التخلي عن روحه التنويرية ومنهجه الفكري التقدمي، ليكتب بروح الباحث الموضوعي. إن من يقرأ روايتي (مواسم الانتظار) سيجد هناك عدة شخصيات، أصواتها تختلف وتتعارض في الموقف والرأي، بما فيها أصوات شيوعية ناقدة لأداء قيادة الحزب الشيوعي في إدارتها لعملية التحالف مع البعث. وأستطيع القول إن (مواسم الانتظار) في جوانب منها رواية لا تعجب الصقور والمتأدلجين الشيوعيين، لأن متطلبات وشروط الكتابة هي من خلقت عوالم الرواية وليس الانتماء السياسي. أيضا أجد من الضروري جدا وجود كتاب ومثقفين في أي تنظيم سياسي وطني، خصوصا أولئك المثقفين المؤمنين حقا بالديمقراطية وحرية الرأي فهم سيكونون مدافعين عن وجود ذلك وحمايته في تنظيمات أحزابهم. 

*وماذا تخبرنا عن روايتك الثانية التي صدرت مؤخرا في القاهرة؟

ـ الرواية تحت عنوان (جريمة... لم تكتبها آجاثا كريستي)، وصدرت في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر2021 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، في سلسلة الإبداع العربي. تناولت الرواية بإسلوب بوليسي تشويقي، عبر ألغاز ومفاجآت، أحداثا جرت توافقا مع موجة هجرة العراقيين إلى أوروبا وفنلندا. حاولت الرواية تسليط الضوء على أسباب ووقائع الهجرة، وتأثير الهجرة على طبيعة المجتمع الفنلندي وتعامل مختلف القوى المجتمعية معها، ومن ذلك نشاط قوى اليمين المتطرف والحركات العنصرية، وأبرزت هموم ومعاناة الشباب العراقي الباحث عن الخلاص، خلال انتقالهم إلى بيئة وثقافة مختلفة وحياتهم في مراكز استقبال اللاجئين. وتجتهد الرواية لتسليط الضوء على التطورات في المجتمع العراقي من بعد زوال النظام الديكتاتوري البعثي، ونتائج سياسات حكومات المحاصصة الطائفية التي غذت الانقسام والاحتقان الطائفي وغياب الأمن المجتمعي بتوفير البيئة لوجود ونشاط الجماعات المسلحة، التي صادرت كرامة الشباب الذي يضطر لمغادرة البلاد. ولم تغفل الرواية الحديث عن معاناة أبناء الشعب العراقي وما تعرضوا له من تعسف واضطهاد في زمن النظام الديكتاتوري المقبور بحكم عدم ولائهم لحزب البعث الحاكم وأفردت دورا متميزا للمرأة العراقية.

*سبق وصدرت لك رواية بعنوان (كوابيس هلسنكي) ، وقادتنا أحداثها إلى العاصمة الفنلندية، ماذا عن بقية رواياتك، هل تدور أحداثها أيضا في فنلندا؟ وما حجم وجود عملك الصحفي في أعمالك الروائية؟ هل يتداخل عندك عالم الصحافة مع الخيال والابتكار؟ هل اعتمدت السرد التلقائي أم اعتمدت القصد في تناول أحداث جرت فعلا؟

ـ كتب يوما الصديق الشاعر الفنلندي ماركو كويفولا عن تجربتي الأدبية في فنلندا، بأن (يوسف أبو الفوز ككاتب يطير بجناحين فنلندي وعراقي). وكان مصيبا جدا. إذا استثنيا رواية (مواسم الانتظار) فهي رواية تطير بأجنحة عراقية خالصة، كشخوص ومكان وأحداث، فإن بقية رواياتي الثلاث ومجموعة قصص (طائر الدهشة) صدرت 1999، تبدأ أحداثها في مدن وأجواء فنلندية، لكن سريعا، وتبعا لمنطق تطور الشخصيات والأحداث، يجد القارئ نفسه في العراق، بمدنه وشخوصه وهمومه. أجتهد في رواياتي وقصصي لعكس تأثيرات الثقافة الأخرى على العراقي المهاجر واللاجئ، وإبراز همومه، أحلامه وطموحاته. أدرك بالتجربة بأن المهاجر واللاجئ لا يقطع تذكرة سفر باتجاه واحد فهو يظل مرتبطا بجذوره ووطنه، وتبقى همومه المتراكبة عراقية وإن عاشها تحت سماء أخرى وسط أجواء اجتماعية وثقافية أخرى. أما عن تأثير العمل الصحفي على رواياتي الأدبية، أجد أنها ملاحظة ذكية، فكثيرا ما ألجأ إلى توظيف صوت الصحفي وتقنيات صحفية، في بعض أعمالي، الروائية والقصصية، بطريقة يمكن القول أنها (كولاجية). أحاول أن لا تكون مقحمة، وتأتي بشكل يخدم النص، فأمرر بعض المعلومات المباشرة كأن تكون وقائع حقيقية أو أرقام. وأجتهد أن لا يكون هذا على حساب السرد الفني والخيال، بل أستخدمه كأسلوب، ولنقل حيلة فنية، لإيهام القارئ وإقناعه بحقيقة ما تصنعه المخيلة، والتي أساسا تغرف موضوعاتها وشخوصها من المحيط الذي أعيشه ككاتب.

*إن جوابك يقودنا للسؤال عن ماذا تشكل لك الذاكرة العراقية هنا، هل هي مجرد الطفولة، أم بدايات الصنعة الأدبية، أم إن خزين الذاكرة ما زال متقدا لحد الان؟

ـ يمكن القول إن أي كاتب، لا يمكنه الفكاك من الذاكرة كأداة عمل، بل إن الذاكرة والحنين هما أبرز أدواته. وأتفق مع القول بأن الذاكرة جسر من خلاله نحقق استمراريتنا عبر الزمن، فهي إحدى وسائل بقاء الإنسان وتقديره لنفسه، وبالنسبة للكاتب أجد أن الذاكرة عامل أساس في نشاط المخيلة. إن الاتكاء على الذاكرة والحنين هي مصدر قوة لأي كاتب، وهكذا فالذاكرة العراقية بالنسبة لي كإنسان وكاتب نهر جارِ أغرف منه ما يروي عطشي من حنين لأشياء نفتقدها، ليس الطفولة ولا البدايات والأمكنة فقط، ولكن لإن عالمنا المعاصر تشوه كثيرا بسبب تركة الأنظمة الديكتاتورية والحروب والحملات الإيمانية المزيفة التي أنتجت أمراض الطائفية المقيتة والعشائرية والتشوهات في المنظومة الأخلاقية للمجتمع العراقي، فصرنا نفتقد ذلك الصفاء الإنساني حيث كان لا يهمنا ما يكون عليه الانتماء الديني والقومي لأصدقائنا وجيراننا.

*ماذا يمثل لك الزمان والمكان؟ هل هما وحدة واحدة أم شيئان منفصلان؟

ـ أتفق مع القول الشائع بأن العلاقة جوهرية ومتبادلة بين الزمان والمكان وأيضا ما يذهب إليه بعض النقاد حين يستخدمون مصطلح (الزمكان) للدلالة المباشرة على ذلك، معتبرين الزمان هو البعد الرابع للمكان. فالزمان والمكان من عناصر الرواية المهمة وتبرز قدرة الكتاب ومهارته في معالجتهما وتوظيفهما بشكل يخدم تطور النص بشكل منطقي، حيث تبرز قدرته في معالجة نمط الزمن الروائي وأنساقه، وقدرته في استخدام دلالات المكان من خلال الوصف وعلاقته بالشخصيات، فالمكان يساعد على إبراز هوية الشخصية ببعدها الاجتماعي والثقافي. وأزعم بأني أكتب لقارئ ذكي، فعليه لا أريد له الاسترخاء أثناء قراءة روايتي، لهذا قلما أترك في أعمالي الزمان يسير على وتيرة واحدة، فألجأ إلى عدة تقنيات منها الاسترجاع وأحيانا يكون متداخلا لأكسر رتابة خط السرد، وكذا عن المكان فإني أجتهد ليكون ليس مجرد خلفية للحدث، بل له دلالات أعمق، فالمكان يجب أن يمسك بالشخصيات والأحداث، وفي رواية (مواسم الانتظار) مثلا، لم تكن مدينتي السماوة مجرد مكان لبعض أحداث الرواية، بل اجتهدت لتكون بشكل ما أحد شخصيات الرواية.

*وهل تجد أن الجمال ضرورة في العمل الروائي؟ــ لا يمكن لأي مبدع فنان أو كاتب أن يتجاهل هذا الأمر، مثلما نعرف بأن مفهوم الجمال في الفن والأدب تطور وأصبح علما حديثا له منظريه وفلاسفته، بل ويعد عند الكثيرين فرعا من فروع الفلسفة ووصفوه بكونه علم التعرف على الأشياء من خلال الحواس. وارتباطا بالمنهج الفكري الذي أسترشد به، أقصد المنهج الماركسي، فإن كل نشاط مادي يقوم به الإنسان له جانب جمالي ما، وبما إن الإبداع شكل من أشكال المعرفة الاجتماعية، فإن الجمال يكمن في قدرة المبدع، الكاتب أو الفنان، في إبراز رؤيته للعالم بطريقة فنية، وتتمثل في براعة الفنان في اختيار الألوان وزوايا المنظور والخ، وطريقة الكاتب في اختيار الموضوعات والأحداث وتعامله مع الزمان والمكان ورسم الشخصيات وطريقة السرد المتبعة، وأيضا قدرة المبدع في تحقيق تكامل بين الشكل والمحتوى. طبعا لا نغفل تعامل الكاتب مع أهم أدواته في الكتابة، ونقصد اللغة، كأداة جمالية. ويتطلب القول أيضا أن الأدب لابد أن يكون له دور في تغيير ظروف الإنسان نحو الأحسن، بمعنى آخر أن مهمة الأدب ليس فقط عكس أو تمثيل هذه الظروف، بل السعي والعمل لتغييرها، وبالتالي إن في أسلوب توعية الإنسان وحثه لأجل تغيير حياته، يكمن أيضا عنصر جمالي هام.

عن دورية اوروك الصادرة في بغداد العدد 81 لشهر آيار 2023*