اعتاد المقهى الثقافي العرافي في لندن في كل نيسان ان يقدم للجالية العراقية والعربية في لندن أمسية ثقافية تتميز بنكهة احتفالية حيث يستذكر فيها أمسيته التأسيسية الأولى التي أقامها في نيسان قبل اثنتي عشر عاما، وتحديدا في عام ٢٠١١.
في هذا العام وفي ٢٨/١١/٢٠٢٣ كان موعد أمسية نيسان فدعا الفنان إحسان الإمام ليقدم أطروحة موسيقية نظرية عنوانها: " قوالب الموسيقى الشرقية والوان الغناء العراقي والعربي "، ومعروف أن موضوعا مثل هذا ينطوي على جانب أكاديمي، يكون طرحه في أمسية ما، ليس سهلا، ما لم يرافقه أداء للنماذج المتنوعة التي تأتي عليها محاور ومصطلحات تلك الأطروحة.. ولكن من يعرف الفنان إحسان الإمام وإمكانياته، سيطمئن الى ان أمسية المقهى هذه، ستكون تحديا إيجابيا وستتضمن تناولا معرفيا زائدا الى تقديم قوس قزح، متنوع واسع للموسيقى الشرقية وسوف تخلق البهجة بالاستماع الى ألوان متعددة وأساليب متنوعة للغناء العربي عموما والعراقي خصوصا.
وسنقوم في هذه التغطية الصحفية الخاصة على أخذ القارىء الكريم في جولة بين التنظير والتطبيق الذي كان بارعا فيه الفنان الإمام لما يمتلكه من دراية ومعرفة بتفاصيل مهنته، كأستاذ للموسيقى، التي كرس حياته لها بالدراسة والبحث في جذورها العلمية وتحويلها الى جمهوره عزفا وغناءً معتمدا بثقة على موهبته المشهودة في هذين المجالين.
ابتدأ الأستاذ سعدي الشذر حديثه في تقديم الأمسية قائلا:" كٌلفت بالقيام بمسألتين، الأولى هي تقديم الأستاذ إحسان الإمام، والثانية ان اذكر لحضراتكم ان في هذا الشهر، أو هذه الأمسية تصادف انعقادها ذكرى بداية أو تأسيس المقهى الثقافي العراقي في لندن، فدعونا قبل الحديث عن المقهى ما رأيكم بأن أقترح عليكم التصفيق للقائمين على إدارة المقهى (تصفيق من القاعة).
إن المقهى الثقافي الذي تحضرون فعالياته أثبت جدارة رائعة على الساحة البريطانية، على إنه فضاء ثقافي مهذب جدا وعالي التنظيم ومنتج وفعال.. ولابد من الإشارة إلى أن الجالية العراقية والعربية في لندن، أو لكل من يتابعون فعاليات المقهى على وسائل التواصل الاجتماعي كاليوتيوب والفيسبوك، يجدون أنفسهم بحاجة إلى هذا النوع من النشاط الثقافي فتحية لكل العاملين في المقهى طيلة السنوات الـ ١٢ الماضية، التي هي عمر المقهى، ونتمنى لهم مواصلة العطاء ".
ثم انتقل الأستاذ الشذر لتقديم ضيف الأمسية الأستاذ الفنان إحسان الإمام، قائلا انه غني عن التعريف، فهو يحتل مكانته المشهود لها في عالم الموسيقى والغناء، وقال إنه يعرفه منذ نشأته وشبابه، حيث تربطه العلاقة العائلية القريبة، وأشار الى أن الفنان الإمام قد ترعرع في عائلة رائعة معظم أفرادها يتمتعون بحس فني راقٍ، وأضاف الشذر: " أتذكر اننا كنا أطفالا في خمسينات القرن الماضي نتحلق حول المرحوم والد إحسان، فنسمع منه قصائد شعرية وكلاما لطيفا وموسيقى جميلة.. وهكذا تربى جميع أفراد العائلة، وإحسان من بينهم، في تلك الأجواء ".
وتطرق مقدم الأمسية الشذر الى المنجز الإبداعي لضيف المقهى وذكر انه أقام ويواصل نشاطه الفني في بلدان عديدة منها فنلندا والدنمارك وأستراليا وبلجيكا وأمريكا وعديد غيرها.. إضافة الى نشاطه المعروف والمتواصل هنا في بريطانيا. وأضاف قائلا:" إن الأجمل ما في إحسان، هو حسه الوطني، فهو ما زال مرتبطا، ارتباطا وثيقا بتربة وطنه العراق، يتجلى كل ذلك في اختياراته الجميلة من الموروث الفني لشعبه، علاوة على براعته في اختيار القصائد والإشعار، حيث من المعروف عنه انه بالإضافة الى كونه أستاذا للموسيقى وعازفا ومغنيا، فهو ملحن مهم أيضا، له مكانة متميزة في هذا المجال ويعطي للكلمة حقها ".
وكشف الأستاذ الشذر ان لإحسان مبادرة ميزته عن زملائه الفنانين، الا وهي اهتمامه بتعليم الموسيقى الشرقية وتدريب أصوات أجنبية على أداء الأغاني العراقية والعربية، وقدمهم الى الجمهور الذي أبدى إعجابه بإجادتهم سواء في الغناء او العزف على آلات غير معروفة لهم في أوطانهم.. وكان الكثير من بين هؤلاء هم تلامذته في جامعة لندن (سوس) كلية الدراسات الشرقية والأفريقية، أولئك الذين كون منهم فرقة رائعة ومنتجة.. ولم يكتف بهذا وإنما كان يهتم في البحث وتدريب أصوات منفردة، ولم يقتصر نشاطه على لندن، إنما امتد الى مدن بريطانية أخرى فهو يسافر اليها لإلقاء المحاضرات مثل أوكسفورد وغيرها ".
تقدم الفنان إحسان الإمام الى المنصة وشكر الحضور وتمنى لهم قضاء أمسية ممتعة يتعرفون فيها عبر ما سيقوم به معهم في جولة لاستعراض القوالب الموسيقية وألوان الغناء.. وإنه سيحاول ردف المصطلحات والتسميات العلمية النظرية البحتة بتقديم نماذج تطبيقية – عملية عزفا وغناء.
وقال انه سيبدأ بموضوع مهم وهو (القوالب الموسيقية الشرقية) فذكر أولا قالب البشرف والذي يعد من أطول المؤلفات لا يرتبط بمقام معين، طبعا هنا تسمية (المقام) لا تعني المقام العراقي، إنما المقصود منها، سلم المقام مثل النهاوند او الرست او البيات او غيرها. والبشرف غني في الجمل الموسيقية ويتألف من أربع خانات وتسليم، والتسليم هو الإعادة او ما يطلق عليه (السينو).
القالب الآخر الذي ذكره الفنان الإمام في محاضرته هو السماعي والذي أشار ان هذا القالب حظي بالشهرة أكثر من البشرف ويعد أكثر أهمية منه فقد أخذ مكان الصدارة في الموسيقى الشرقية وهو الآخر يتألف من أربع خانات وتسليم. أما عن قالب الدولاب فقد ذكر انه قطعة موسيقية تأتي بمثابة الاستهلال ويمهد للدور او القصيدة او حتى المقام العراقي وهو يتألف من جمل موسيقية قصيرة ذات موازين بسيطة وهو أيضا يلعب دورا رئيسيا في إشباع أذن المطرب تمهيدا للغناء، وهو ما يطلق عليه شعبيا (السلطنة). وتحدث كذلك عن قالب يدعى بـ التحميلة وهي يكون لحنها بمثابة محاورة موسيقية تنفذ بالآلات الشرقية كالعود والقانون، وأعطى مثالا في العراق خماسي الفنون الجميلة الذي تشكل من الأساتذة روحي الخماش وغانم حداد وحسين قدوري، كان كل منهم يعزف في مكان ما فرديا والفرقة تجيبه وصولا الى دخول الجميع في العزف مع بعض.. ثم جاء الأستاذ الإمام على طرح لون آخر يسمى (اللونكا) وهو لحن خفيف ورشيق يتميز بالسرعة والقفزات اللحنية ومن خصائص هذا القالب يبرز مهارة العازف وتمكنه من الأداء والسيطرة على آلته الموسيقية، و (السيرتو) قالب آخر موسيقى يعزف على الآلات الشرقية ويتضمن ايقاعات متعددة في القطعة الواحدة وهو في هذا يشبه اللونكا من حيث السرعة وأصوله يونانية وضعت موسيقاه للرقص. ودعا الفنان الإمام الفتى بشار الذي صعد الى خشبة المسرح يحمل عوده وسط ترحيب الحضور بالتصفيق المتواصل، خاصة بعد ان قدمه الفنان الإمام باعتباره تلميذه واصفا إياه بأنه أصغر عازف عود في بريطانيا، وقال ان سيعزف أولا (السيرتو) ثم (اللونكا) وسأله لمن الأولى فأجاب بشار بأنها سيرتو أدهم أفندي.. وبعد ان انتهى من عزفها ببراعة واضحة ابتدأ بعزف اللونكا التي قال عنها بشار انها تعود لأستاذه إحسان الإمام.. وبعد ان انتهى بشار من عزفه نهض لينحني شاكرا الجمهور الذي رحب به بالتصفيق المشجع له ولموهبته الواعدة.
ثم توجه الفنان الإمام الى عوده وقال انه سيعود للعزف الى نماذج وسيبدأ بعزف السماعي لروحي الخماش.. ثم انتقل ألوان الغناء العربي والعراقي فذكر (الدور) وقال انه لون غنائي قديم رغم تكوين كلماته البسيطة وابياته القليلة والهدف منه استعراض أداء الحان مختلفة واهم أمثله عليه: " انا هويت " و" ضيعت مستقبل حياتي " ومن أبرز مؤديه سيد درويش وسلامة حجازي وأبو العلا محمد وزكريا احمد.. اما اللون الآخر فهو (الموشح) وقد اشتق أسمه من الوشاح وهو رداء موشى بالزخارف وهو لون غنائي جماعي وصلنا من الأندلس.. اما بالنسبة للأوبريت فهو لون غنائي متميز ينتمي الى المسرح الغنائي وتاريخه حافل بالأوبريتات تلك التي ابتدأها الشيخ سلامة حجازي وتطوره ونموه على يد سيد درويش.. وفي العراق كان اوبريت "بيادر خير”. ثم واصل الفنان إحسان الإمام بتعداد الألوان الغنائية الأخرى فجاء على ذكر الطقطوقة والديالوج والمونولوج والمألوف المنتشر في المغرب العربي والميجنة اللبنانية والفلسطينية.. الخ.. وقدم أيضا عزف مقطوعات موسيقية لسلالم مقامات الصبا والنهاوند والحجاز كرد والدشت وكان يرافق كل قطعة منها بالشرح التفصيلي محللا إياها بشكل علمي (نظري) وعملي (تطبيقي) وواصل هذا الأسلوب في الأغاني التي قدمها سواء كانت التراثية او المعاصرة لفنانين متعددين او تلك الألحان التي كانت من منجزه التلحيني.
امتازت هذه الأمسية بحضور حشد كبير من الجالية العراقية والعربية والتي امتازت بالأصغاء والاهتمام والمشاركة في ترديد الأغاني التي كان يغنيها الفنان الإمام وخاصة حين يدعوهم ليكونوا كورسا يرافقه بالأداء.
وانتهت الأمسية التي احتفى فيها الفنان الإمام لوحده، بجهد واضح دام زهاء الساعتين، محييا ذكرى تأسيس المقهى الثقافي العراقي في لندن ومواصلته لعطاءه منذ ١٢ عاما مرت دون انقطاع.