دونما محاولة تقديم تعريف شكلي، قد نقول بأن ادب الاعتراف هو تمثيل متماسك لتجربة حياتية دالة، او هو سلسلة من التجارب المترابطة، منظمة في كل متكامل. ان كاتب الاعتراف يعيد خلق الاحداث التي قد تكون خارجة او ذهنية او حقيقية، وهذه الاحداث هي تجارب حياتية بالنسبة للناس المشتبكين بها.

ومن وجهة وظيفية او نفسية، يمكن الوقوف تحت ظل ايجابي لأدب الاعتراف عندما ينطوي على اشكال متعددة من الخطاب: "مذكرات، ذكريات، سيرة ذاتية، شهادات، يوميات، مدونات، تقارير، الخ". ومع ذلك فان هذه الاشكال تتخذ من الاستيهام والخيال صيغة معلنة في خطابها، على العكس من الاعتراف الذي يقصر على الحقيقة المطلقة والوقائع المجردة. وبالطبع لا يمكن الركون الى اعترافات الشاعر الفرنسي ألفريد دي موسيه التي جاءت بعنوان رومانسي صادم "اعترافات فتى العصر" اذا ما اخذنا في الاعتبار الاعترافات التربوية لهنري آدمز وسلامة موسى او الاعترافات السياسية لمحمود امين العالم، او الاعترافات التكوينية لجان جاك روسو التي اعلن فيها منذ البدء "هذا انا وهذه حياتي"، وكذلك اعترافات لويس عوض في "اوراق العمر" وشكري عياد "العيش على الحافة" او "نجيب محفوظ.. انني اتحدث اليكم" من جمع د. صبري حافظ.

بتعبير آخر: الاعتراف افضاء أي الاقرار بامور على النفس كالذنب والسقوط وسرد الخبايا والاسرار. بينما تعد المذكرات والسير الذاتية والشهادات واليوميات اقراراً بامور الغير والعصر, والمفارقة انها تصبح اقرب الى القطب الاول "الاعتراف" حينما تكون شديدة الذاتية متصلة بالاشادة والمديح وسرد الانجازن على الرغم من ان عالم النفس التجريبي يونج يضفي على القطبين صفتي "السيرة النفسية/ السيرة البيئية". ولعل التباين حادث ايضا على مستوى افق التلقي، فالقارئ يبحث عن متعة المعرفة على مستوى القطبين معاً في شخصية الكاتب، ومراحل تفوقه، محافظاً على اعتقاده الراسخ في براءة هذا الكاتب وقدوته.

ومع ذلك، فقطب الاعتراف الصادق قد يولد رد فعل عنيف في السياق الاجتماعي حينما يسعى الى فضح الاخلاق الشائعة والتعرية التامة لكل محرم او مسكوت عنه، في ظل ثقافة عربية تبجل الستر، وتحتفي بطي الصفحات الماضية او السود، وتنظر الى النبش في الخطايا القديمة على انه ضرب من التهتك ان لم يكن تهوراً او بحثاً عن الفضيحة، كما حدث لافراد عائلتي لويس عوض وشكري عياد، حينما سحبوا كتابيهما المذكورين من الاسواق تحت ذريعة الاساءة الموجهة اليهم عن عمد واصرار، وهذا يعني ان الوعي الاجتماعي العربي لم يوفر حتى الآن المناخ الذي يساعد على انتاج متميز في ادب الاعترافات، طالما هناك اعتراضات او تابوهات تقف حجر عثرة في هذا المضمار. ولم نذهب بعيدا، فاعترافات صديقنا الراحل خضير ميري في كتابه "الجنون والعسل" قد تعرضت الى السخرية وعدم التصديق على الرغم انها كانت معززة بالوثائق الرسمية من المصحات ودوائر السجون.

وشخصيا ارى ان الكاتب الحقيقي يمتلك مسا من الجنون في تكوينه. انه منتشٍ ومتحمس وحقيقي، ويمكن ان نقول انه ملهم. ومثل هذا الكاتب لا يعرف دائما انه يمتلك حساسية خاصة تجاه اللغة وهو ثمل بالكلمات الا انه قلما يصبح وسيطا سلبياً للاعراف والتقاليد كما يقول افلاطون. وفي الادب فان الجنون غير المنضبط هو جنون، اما الجنون المنضبط فهو عبقرية.

والسؤال الآن: ما جدوى وقيمة الاعتراف؟ هل المطلوب من الكاتب ان يروي تفاصيل اخطائه وآثامه بلا ادنى تحفظ؟ هذا اذا ما اتفقنا مع الناقد المصري د. جابر عصفور حول "شجاعة الاعتراف" حينما يكون هذا الكاتب معريا نفسه واحداث حياته بلا خجل او ندم، غير متردد في الحديث عن تجاربه او تجارب غيره الذين اتصل بهم، مهما كان هذا الحديث جارحاً للاخلاق الشائعة او مجافيا للسياسة السائدة او مخالفاً للتأويلات الدينية الغالبة. وعلى اية حال فان هناك دائما امكانية لتطورات ومفاجآت جديدة لأدب الاعتراف في الوطن العربي. وبينما تظل حقيقة انجازاتنا في هذا الادب لا تعادل انجاز ما قدمه الغرب منذ عقود طويلة من السنين، فهناك في الاقل دليل على ان الاعترافات العربية، ليست بالتأكيد ذات طاقة ناضبة.

وفي هذا السبيل، يمكن التمييز بين الاعتراف والمذكرات او بين الاعتراف والسيرة الذاتية. ففي ادب المذكرات يحدد الكاتب منذ البداية الطريق الذي سيسير عليه في روايته الاحداث، لا يسمح بأي انحراف عن هذا الطريق لا يخدم السياق العام لقصته. قد يكون ثمة تعرجات هنا وهناك ولكنها تعرجات مبررة ولا تبعد بنا اكثر من اللازم عن المسار الاصلي الذي نعرف دائماً اننا على وشك الرجوع اليه، خصوصا في مذكرات الساسة والعسكريين التي توافرنا على قراءتها كمذكرات جعفر العسكري وسعد الدين الشاذلي وتوفيق السويدي وبهاء الدين نوري وباقر ابراهيم وزكي خيري "صدى السنين"، وصالح مهدي دكله "من الذاكرة" ومحمد حديد "مذكراتي" وفهد عبد الخالق "مذكرات طيار"، ومذكرات كمال السامرائي "من وحي الثمانين".

اما فيما يتعلق بمذكرات الادباء فأشهرها مذكرات الجواهري، ومذكرات ذو النون ايوب ومذكرات فدوى طوقان "رحلة صعبة.. رحلة جبلية" ومذكرات سعدي يوسف "خطوات الكنغر"، ومذكرات صلاح نيازي "غصن مطعم بشجرة غريبة" ومذكرات امير الحلو "نقاط الحبر الاخيرة". ولعل اشهر ما قرأنا للأدباء العالميين من مذكرات "اشهد اني عشت" لبابلو نيرودا و"الغابة الضائعة" لبول ايلوار و "حصيلة الايام" لايزابيل الليندي و "خارج المكان" للامريكي الفلسطيني ادوارد سعيد.

وارى شخصياً ان هناك مذكرات خاصة بالكولنيالية وما بعد الكولنيالية التي تعزز اهداف الغرب باستعباد الشعوب، كمذكرات الشاعر الفرنسي لامارتين "رحلة الى الشرق" ومذكرات الجاسوس البريطاني الشهير لورنس "اعمدة الحكمة السبعة" ومذكرات ونستون تشرشل وشارل ديغول ورومل ومونتغمري، ومنها ايضا المذكرات العنصرية والاستيطانية، واشهرها "كفاحي" لأدولف هتلر و "من العمل السري تحت الارض الى الحرية" لموشي دايان. ومن ابرز مذكرات مرحلة ما بعد الكولنيالية نجدها في كتب وزراء الخارجية الامريكان كهنري كيسنجر وبريجنسي وجيمس بيكر وكذلك الرئيس الامريكي جورج بوش في مذكراته "قرارات مصيرية". وبهذا تصبح عملية الترجمة عن اللغات الاجنبية وبشكل خاص عن لغة الكولنيالي والعنصري والاستيطاني غير مبرأة وبحاجة الى فحص وتدقيق، والكشف عن الاستراتيجيات الفكرية التي اعتمدها المترجمون العرب بوعي، واحيانا بدون وعي لمواجهة الشفرات المدمرة لهذه الاستراتيجيات واهدافها.

نخلص من ذلك، ان تعريف المذكرات الشائع "قصة حياة الشخص كما يرويها بنفسه" قد يكون شبه مضلل احياناً، حينما يصبح الراوي شخصا آخر "وسيط" يكتب هذه القصة من دون ذكر اسمه، وهذا تقليد عالمي معروف ابتدعته الصحافة العالمية، ويطلق على هذا الراوي "بلاك رايتر" اي الكاتب المتخفي، ومنه الصحفي اللوذعي المشهور محمد التابعي الذي كتب اغلب مذكرات نجوم الغناء والتمثيل في مصر. ويعترف الرئيس بوش في مقدمة مذكراته بانه قد التقى اكثر من اثني عشر مؤرخاً متميزاً، وجميعهم قالوا له ان يسجل بكلماته الخاصة وجهة نظره في سنوات الرئاسة، في حين كان ونستون تشرشل مدعاة للسخرية من شارل ديغول حينما تناهت الاخبار اليه بأن تشرشل لم يخط سطراً واحداً من مذكراته بقلمه الشخصي!

ومن خلال المذكرات نتوقف قليلا عند الذكريات التي تعد الاقرب نسقا وتعبيرا لدى بعض الكتّاب كالروائي الفرنسي جورج سيمنون في "ذكريات حميمة" ذات الواحد والعشرين مجلداً، وكذلك الشاعر العراقي سامي مهدي "شاعر في حياة/ ذكريات واطياف" وتقترب "السيرة الذاتية" من الذكريات والمذكرات معاً، حينما يحدد شرطها الرئيس الاديب الفرنسي وكاتب السير المعروف جان موروا، بأنها مذكرات او حياة تكتب بقلم كاتب آخر "معروف وغير متخف" كما في السيرة الذاتية للشاعر آرثر رامبو بقلم ايزابيل رامبو تحت عنوان "شقيقي رامبو" والسيرة الذاتية للشاعر عبد الوهاب البياتي بقلم محمد شمسي وهما سيرتان تنضويان تحت مفهوم "السيرة النفسية".

ويتسع ادب السيرة الذاتية الى المفهوم السياسي الصريح بأقلام بعض الكتاب العراقيين امثال احمد الحبوبي "اشخاص كما عرفتهم" واحمد فوزي "عبد السلام محمد عارف" وثمينة ناجي يوسف "سلام عادل- سيرة مناضل" وربما النفسي بالبيئي والنقدي كما في سيرة المخرج الايطالي فيليني "كيف اصنع فيلماً سينمائياً" بقلم مواطنه الروائي ايتالو كالفيني، او سيرة الممثل الانكليزي الشهير لورنس اوليفيه بقلم جون كروتل، او سيرة شكسبير بقلم بيتر اكرويد، او سيرة محمد عبد الوهاب وام كلثوم بقلم اللبناني جهاد فاضل.

والملاحظ ان الكتّاب العراقيين مولعون بأدب السيرة النقدية، كما وردت بأقلام د. علي جواد الطاهر حول "محمود احمد السيد.. رائد القصة القصيرة في العراق" و "حسين مردان.. من يفرك الصدأ" وسليم السامرائي حول القاص الرائد يوسف متي، وفوزي كريم حول القاص أدمون صبري، و د. عقيل مهدي حول القاص كمال لطيف سالم. واحيانا تتخذ هذه السير صوراً قلمية "بورتريهات" كما جاء في كتاب عبد الرحمن مجيد الربيعي "وجوه مرت .. بورتريهات عراقية" او "رجال وتاريخ" للدكتور حميد حمد السعدون، او كما وردت في كتابين منفصلين لسير المخرجين المسرحيين العراقيين: عقيل مهدي وعدنان منشد.

وتشكل "الشهادات" في ادب الاعتراف جزءاً واسعاً وملموساً لدى الكتّاب العراقيين ايضاً، والشهادة حسب يونج مرة اخرى، هي نوع من السيرة البيئية، وفيها يكون الكاتب قادر على التعميم والشمولية. انه نفسه، وبطبيعته ضرب من الشخصيات الشمولية. وانطلاقاً من موروث عريق، فان الكاتب في شهادته يتصرف بوصفه ناطقاً باسم جماعته وطبقته وامته، وفي الواقع باسم الجنس البشري ككل. وقد يكون الكاتب رائياً كالنبي كما جاء في الشهادات الادبية لبعض شعراء الستينات امثال: سامي مهدي في "الموجة الصاخبة" وفاضل العزاوي في "الروح الحية" او لمجريات الاعلام الاذاعي كما في شهادة القاص احمد خلف "الرواق الطويل".

وهناك ايضا الشهادات السياسية المهمة، كشهادة الاستاذ عبد الرزاق الصافي حول النضال الوطني في العهد الملكي، وحسين جميل في كتابه المعنون "شهادة سياسية" حول النضال الدستوري في العهد ذاته ايضاً، وسعاد خيري حول "ثورة 14 تموز" واسماعيل عارف حول "اسرار ثورة 14 تموز" ونجم الدين السهروردي حول حركة مايس عام 1941 بعنوان "التاريخ لم يبدأ غداً" وعقيل حبش عن حرب الاهوار عام 67- 1968 بعنوان "شهادة حية من لهيب المعركة" وعلي كريم سعيد عن انقلاب 8 شباط 1963 بعنوان "من حوار المفاهيم الى حوار الدم" وحسن العلوي عن دكتاتورية سلطة البعث بعد 1968 بعنوان "اسوار الطين".

وبعد، وقد ينتهي او لا ينتهي ادب الاعتراف بالتقارير والدفاتر واليوميات، ومنها "تقرير غريكو" للروائي اليوناني نيكوس كازنتزاكي، او المدونات السرية لمناضلي اليسار العالمي كـ "دفاتر السجن" للايطالي غرامشي و "اعواد المشانق" للسجين التشيكي المغدور فوتشيك. فهذا الادب – كما احسب – وبكافة اشكاله يمثل نشاطاً وحركة ثقافة وسياسة، وكل ما يمت للفعل الايجابي في الحياة، بعيدا عن الميثاق الاوتوبيوغرافي الذي يحكم القصيدة والمسرحية والرواية، خاصة وان هذا الادب ذو صلة وثيقة بالمترجمين والباحثين والاعلاميين، آملاً ان تجد هذه المسألة العناية من قبل الجامعات وصولا الى صيغة حضارية في مضمار الادب المذكور.