القرار الأخير ( القرار الصعب ) :
القاص لؤي كان ذكيا في وصف التضحية والفداء وماهي الصفات التي يتحلى بها الوطني الحقيقي وقائد العربة الذي يوصل العديد من المسافرين ومن ضمنهم إبنته وزوجته وفي الطريق الجبلي تسقط إبنته أمام عينيه لكنه آثرالسكوت على موت إبنته خوفا أن تفزع الأم وبالتالي يؤدي به الى فقدان توازنه ومن ثم سقوط العربة وموت جميع من فيها فبقي صامتا حتى وصول الجميع الى رصيف الأمان. هذا هو القائد الذي يقل نظيره في سوح التضحية في سبيل الآخرين بينما هو الخاسر الوحيد. أما صدام حسين أراد البقاء وحده لمجده وتأريخه وليذهب جميع الشعب العراقي بكل طوائفه وما فيه من الحرث والنسل . وأما قادة العراق اليوم بما جلبوه من الأكليروس المريض لايمكن أن نختصر المأساة التي رسموها وأصرّوا على تشتيتنا وهلاكنا بعربتهم الهمجية التي ليس لها مثيل في كل أنطولوجيات الهلاك والموت .
في قصته ( فرحان) :
عن السجين اليائس من حياته ( فرحان) الذي يوصي أحد السجناء( كريم) فيما إذا أنجبت زوجته بنتا لتسميها إسلام وإذا كان ولدا لتسميه ثأر الله و رغم الروح الثورية المختلفة لدى لؤي لكنه هنا آثر حب الأوطان على العقائد بإختلاف مقاصدها وهنا يستوقفني لؤي عند سؤال المفكر المصري (يوسف زيدان) حين يسأل محمود درويش عن رأيه في اليهود فيجيب بإجابة مبكية مضحكة فيقول ( أخذوا أرضي وعلّموني وأول إمرأة أحببتها هي يهودية منهم ..إشارة الى ريتا اليهودية وهي الحب الأول لمحمود درويش التي ذكرها كثيرا في قصائده ). هذا هو الإنسان والشاعر أما محمود درويش المسروق حقه فيختلف لأن البشر عموما تجرفهم عواطفهم على حد زعم الفيلسوف الوجودي اللا أدري (ديفيد هيوم) . وبعد مرور أعوام وفي المواجهة من قبل عوائل السجناء في قصة لؤي هذه تأتي زوجة هذا السجين لمواجهته تحمل طفلة صغيرة إسمها إسلام . ولذلك هنا لؤي قد رسم لنا معنى الأمل بكل تجلّياته وليس لدي سوى أن أطلق على هذه القصة المتجاوزة في الإبداع من أنها قصة ( الأمل والتفاؤل)، حيث أن كلا السجينين حصدوا أملهم ، فأحد السجناء أطلق صراحه فذهب الى عائلة السجين الذي أوصاه بتسمية إبنته ثم الآخر حصل على ما يريده في تسمية إبنته إسلام. وهنا أيضا لؤي كان موفقا حيث لم يدخلنا في تفاصيل إطلاق صراح السجين الا من خلال معرفتنا من أن السجين الآخر حصل على إبنة إسمها إسلام وبهذا عرفنا من أن السجين الآخر أُطلق صراحه. وبهذا كتب لؤي لغة التفاؤل مرتين أكيدتين لاغبار عليهما في الشك أو اليقين بإسلوب فني بنيوي متراص مختصر إستطعنا الإستفادة منه على وجه السرعة التي توفق بها لؤي كثيرا.
من جانبٍ آخرٍسوف أتطرّق الى مجمل السلوكيات الفنية والأدبية والإجتماعية التي تضمنتها الثيمات السردية ورسائلها من قبل لؤي الى القاريء :
لم يترك لنا لؤي شريحة إجتماعية في قصصه القصيرة هذه الاّ وتطرٌق عنها بشكلها ومعناها المختصر لكنها الوافية بمغزاها . ففي احد الثيمات القصصية يوضح لنا لؤي كيف هي الحياة في الثكنات العسكرية والملاجيء التي بمثابة بيوت للجنود التي تبنى بأكياس التراب والرمل ومع كل هذا الألم تبقى الروح الصداقية بين الجنود التي لايمكن أن تنحدر الى حافة المناكفة بل بقيت القلوب مع بعضها لتخفيف الوجع الهادر من حياة العسكرتارية التي لاتطاق والتي عاشها مليون عراقي إرتدى الزي الخاكي علاوة على عسكرة الثقافة بين أوساط المجتمع بأكمله . إضافة لذلك يتحدث لؤي كيف كانت الإستخبارات العسكرية تتعامل مع الجندي بكل قسوة بحيث أن أحد الجنود في قصة ( وشم بارودي) : يطلق النار على يده اليمنى لكي يكون معوقاً فيتخلّص من الخدمة الإلزامية ومن الموت المحقق لكن آمر الوحدة كانت لديه وجهة نظر مغايرة في الحرب الغير عادلة فأعفى عنه رغم أنه العارف من أنه فعلها بنفسه متعمدا وليس سهوا . أما أحد ضباط الإستخبارات فأعتبره خائنا وأراد ارساله الى الجهات لأمنية العليا ، لكن هجوما ايرانيا مباغتا أدى الى وقوع هذا الضابط المنتقِم في الآسر الأيراني وهناك بدا جبانا حقيرا فيحمد الله بأنه وقع أسيراً لدى الجمهورية الأسلامية ، فيا لسخرية القدر التي خلّصت الجندي( حسّان) من عقوبة رمي يده بالرصاص . أما حسان فكان شجاعا لم يخف أبدا وهو العارف بمدى العقوبة التي سوف ينالها على فعلته هذه . ولذلك يبقى الشجعان بيرقا بارزا على مدى الدهور بينما الجبناء يسجلوا أنفسهم في خانات الذل والهوان والسقوط الى منحدر التأريخ المُذل .
لؤي في هذه المجموعة تكلم عن الموروث الإجتماعي الذي لازال للآسف ينخر في كل الجسد الإجتماعي العراقي فبقي على أمراضه مع تقادم المدنية لدى الشعوب الآخرى . في أحد الحوارت السردية التي تنتمي الى الواقع العراقي اليومي والتي وصفها لنا لؤي بدون أي فنتازيا فنية فكانت واضحة لدى القاريء ومفاد هذه الحوارية هو : يصر (الأخ أحمد) على أخته ويجبرها على أن ترتدي الحجاب بينما هي مثقفة متطلعة فترفض ذلك . موروث بقي متجذرا في العوائل الفقيره بينما الإثرياء يفعلوا ماشاءوا منذ ذلك الزمن الماضي للإسلام وما مثلنا على ذلك هو إبنة حاكم مصر أبو المسك المخصي كافور الأخشيدي 946 م ، فعلت كل شيء يشبع الرغبة ومنها أنها ذات مرة إشترت جارية من سوق النخاسة لخدمتها جنسيا سحاقيا بقيمة مائة دينار . هكذا كان الإسلام أنذاك في عصور الهمجية والتخلف بينما اليوم مانراه في قصة لؤي ينبئنا من أننا سائرون الى ضحالة وفقر الثقافة التي تجعل من الرغبة والجنس والتفاخر بالجمال ونزع الحجاب من الأمور التي يعاقب عليها الله ورسوله .
أما في الجوانب الأدبية لهذه المجموعة ثم في مستهل قصصه ، يقدم لنا لؤي بوحه الومضي المكثف ومنها :
(أعظم المواقف وأشجعها تلك التي ينجبها مخاض مؤلم). وما مثلنا على هذا أن بلد المليون شهيد الجزائر أنجبت جميلة بوحيرد المناضلة التي خرجت من آلام المقاومة الشعبية ضد الإستعمار الفرنسي. أيضا المفكر المستنير ومؤسس البروتستانت الألماني (مارتن لوثر) المعترض على صكوك الغفران، جاء بعد مخاض حرب إستمرّت ثلاثين عام في أوربا حصدت الملايين من القتلى بحيث أنّ الموتى كانوا ينقلون بعربات على هيئة أكوام من الجثث بشكل تخجل منه الإنسانية المتحضرة اليوم ، وبعدها أنجبت أوربا من كل هذه المخاضات العديد من الفلاسفة أمثال فولتير وروسو وسبينوزا الذين كان همهم الوحيد هو محاربة التعصب الديني والطائفي حتى إستقرت أوربا على ماهي عليه الآن من حضارة وإستقرار مدني لايمكنه الرجوع للوراء .
وفي جانب آخر فيما يخص النثر الومضي الذي يحمل من التفاسير الهائلة في مستهل كل قصة من قصصه وكإنه يريد أن يعطي للمتلقي اختصارا مضغوطا قبل الدخول لقراءه القصة بأكملها وكان موفقا في هذا الإسلوب الفني المدهش والمثير فعنصر الإثارة هو من الأسس الفعالة لهذا النوع من البوح الأدبي، وهذا الإسلوب إتبع في كثير من الأفلام الهندية الدرامية أو الرومانسية العالمية كي يضفي على الأجواء السينمية أدبا مغلّفا بالفن السابع، إضافة الى وضع الإشارة لما نريد أن نعرفه حول الفلم بشكل كامل من الناحية السردية وأحداث الفلم التي تترى بعد ذلك. فعلى سبيل المثال في قصة ( سيد حسن) يقول في مقدمة القصة :
( بين أروقة الروح المكتضّة بالحنين بحثت عن السراب فوجدتك) : سيد حسن عراقي لكنه من أصول إيرانية يسفّر في سبعينيات القرن المنصرم من قبل السلطات البعثية في حملتها المشهورة أنذاك لتسفير الكثير من العراقيين قبل بدء الحرب الإيرانية العراقية. يسفر حسن ويموت هناك في ديار غريبة بعيدا عن أرض وطنه الأم وهو العراق. فحين نعود الى ومضة لؤي ( بين أروقة الروح..) فهي تتطابق فنياً وتأريخياً وزمكانياً مع ماحدث لحسن فيما يخص البحث عن السراب فهو البحث عن العدم واللاشيء، ولذلك حين يبحث لؤي عن حسن فيجده في سراب الزمن يعني أنه ميتا دون رؤيا الجدث المسجى من قبل لؤي، وما بإستطاعته أن يمسك بشآبيب السراب. ذهب حسن مع الريح ولم يعد لآنه أصبح في مويجات السراب التي تتراءى لنا ومامن حقيقة بوجودها .
قبل أن أنتهي من قرائتي أقول من أن لؤي إستطاع أن يدخل نفسه في دائرة إقتناص الفرصة اللذيذة تلك التي هي من المهمات الرئيسية للأديب والا فإنها سوف تذهب أدراج النسيان قبل البدء بالمَسك بها بأطراف أصابعنا وهي لما تزل طازجة في سماء الكشف. من خلال إستكشافي عن مجمل القصص التي قرأتها وجدت أنّ لؤي كان وجدانيا ومدنياً بعيدا عن العقائدية، وأكثر بعداً عن السياسة وهذا هو الأدب النافذ. قرأته هنا وقد إختلف كليا عن روايته الأولى، هذا يعني أنه قدم التجديد والمغاير وهذه تحتسب له في معطيات الإبداع والقفز الى ماهو حديث لقتل الرتابة والروتين البوحي المتماثل. إستطاع أن يكون سارداً درامياً مكتفيا بقليل الأسطر لكنه الهائل في معانيه وتفاسيره التي تتطلّب الصفحات. كما أنه إستطاع ان يوضح لنا كيف يخرج الفاشي من جسد الضحية تلك المعادلة التي تطرق عنها درويش في ملحمته (مديح الظل العالي )، وكيف نرى تلك المفاهيم القميئة التي تقول ( إقتل كي تكون) .الإمبريالية الجديدة تقصف بقنابلها كما حصل في ( قصف جسر السماوة) وتقتل المزيد لكن جنرالاتها حين يقابل قطته ويراها متوعكة يأخذها للطبيب البيطري، إنسانية محرّفة لها أكثر من وجه ولكن أقبح وجوهها هي الشر والإنتقام. لكن الضحية حين تنزف دماً فهي هنا تعرّي الفاشي والمجرم وبهذا يعني يخرج الجلاد من جسد الضحية عاريا مفضوحا بجرائمه وقتله للآخرين دون وجه حق .
وفي النهاية أقول أن لؤي وفي جوهر معانيه أراد أن يوضح من أنّ هناك ثلاث شموس في بلادنا ( الشمس المشرقة، عباد الشمس، والأوغاد) هذا ماقاله الممثل الشهير كلنت إستوود في فيلمه الجميل ( الخارج عن القانون جوزي ويلز ) .
هاتف بشبوش/شاعر وناقد عراقي