إلى  المبدع الكبير صديقي قصي الخفاجي

1-2

مقداد مسعود

على عجلتيّ السرد والتوصيف: تشتغل رواية (مدينة من رماد) للروائي والشاعر والمترجم الكبير فاضل العزاوي، الذي كنّز المكتبة العراقية والعربية بثراءٍ لن ينضب.

(*)

 زمن الرواية هو 1967، زمن كتابة الرواية :1976. المسافة بين التاريخين، مجرد تقديم رقم (6) على رقم(7)..عشر سنوات بين المسافتين، ستكون المسافة شاسعة، أعني بين سنة  1976 و2021 سنة إصدار الرواية عن دار الجمل .في روايته (كوميديا الأشباح)  في ص4 الصفحة التعريفية بالروائي فاضل العزاوي نقرأ التالي (مدينة من رماد/ رواية،1989)..

(*)

في (مدينة الرماد) تلمس قراءتنا التناصف بين السرد والتوصيف، السارد الحيادي يقدم مسحا لمدينة بغداد منتصف الستينات، وتكون نسبة ضئيلة من هذا المسح : حصة كركوك: مدينة المؤلف. وبين السرد والتوصيف : تلازم وثيق.

(*)

 قاسم حسين : هو مغزل الرواية ونسيجها وهو بدء الرواية ونهايتها. بمقتله حكومياً. ينغلق ملف الرواية

(*)

على مستوى هندسة السرد :. تقريبا ثلاث مرات يتكلم قاسم حسين بصوته هو وليس بواسطة السارد الحيادي: في(53) (54)  والثالثة  هذه الوحدة السردية الصغرى (ها أنذا أخبئ وجهي منذ ثلاثة أيام عن الناس، معتكفاً في هذا البيت الذي يخنق كل رعشة للحياة في داخلي. لا شيء يشبه الانحدار ما يكاد المرء يهوي قليلا حتى يجد نفسه داخل الليل، حيث كل خطوة انحدار جديد/ 159).. ثم يتوارى هذا المنولوج المنكسر، ليحل محله السارد المحايد  )كان قاسم يفكر في عاره أمام نفسه...) وهناك ما اجترحتُ له في مقالاتي (السرد الجواني ) : منه يتدفق الزمن النفسي للشخصية وينوب عنها في السرد: السارد المحايد( ظل المعاون قاسم حسين متكأ على مقعده حتى ساعة متأخرة من الليل، رائيا حياته تنساب أمامه مثل نهر يشق طريق في فلاة.../ 32 )  تتكشف لنا في الزمن النفسي  حياته الطلابية وكيف سعى والده ليكون في سلك الشرطة بينما أختار صديقة جليل محمود : جامعة بغداد.. ثم يعود قاسم حسين إلى الراهن وجليل محمود  سجين، بعد أن يقرأ قاسم سرد الإضبارة الخاصة  العائدة للسجين جليل محمود.. هنا سيقوم قاسم بتدوير سرد الإضبارة( حاول أن يشكل القصة من جديد، ليس هناك سوى قصاصة ورقة كتب عليها إسمه وعنوانه عثر عليها في الوكر../     45) يقوم قاسم حسين كرجل أمن، بمساءلة  الأمر: من الممكن أن تكون هذه القصاصة : دسيسة ؟ لماذا اسمه وحده في القصاصة؟ أليس هي تهمة كيدية؟ ضد جليل (ربما كانوا يضمرون له الشر)

(*)

لنقرأ قاسم حسين، بالمقارنة مع الراهن العراقي ونحن في 2021،وهو معاون مدير أمن بغداد، أعزب ..يسكن في مشتمل، في منطقة الوزيرية، يفضل المشي على السيارة التي خصصتها الدولة له. وحين  يشرب الخمر  في الحانات والملاهي لا يعجبه الإهتمام  المفرط  الذي قابله به المدير والندل ،  حين يهم بالمغادرة يرمي النقود على المائدة ويخرج مغتاظا / 9 فهو يدرك أنهم يتوسلون سلطانه  ثم يتحول سلعة ً معروضة ً للبيع والشراء، يبدو أن المؤسسات الحكومية يومها تستنكف ممارسة الفساد، والموظفون فيها لا يستعملون مراكزهم بشكل مشبوه ..والأهم أن المؤلف  فاضل العزاوي يكتب من داخل الحدث ومن خلال تجربته النضالية في الستينات وكل ذلك مثبّت في كتابه (الروح الحيّة ).. معاون مدير أمن بغداد : قاسم حسين، عليه أنّ يقوم بتدوير سرد ذاته هو. عليه التخلص من قاسم المدني المسالم الذي (ظل طوال شهور يخجل من ممارسته سلطته/ 37) ويكون ذلك بالتدريب على تعذيب السجناء، وحين يقوم بتعذيب السجين الشاب ويقسو عليه بِلا مبرر، من هذا الاجراء الذي استغربوه منه، أما قاسم نفسه، فيرى في كل صفعة  منه :  كان يهدم الحاجز الإنساني الأخير بين قاسم الشفيف وقاسم الجلاد. الآن وهو يحدق في باطن كفه يخاطب نفسه، متذكراً ذلك السجين المرتبك (إنني أشم رائحة دمه حتى اليوم) وسينجح في فن التعذيب قاسم حسين، وينسف أجمل نسمة إنسانية فيه، حين يعذّب  زميل دراسته وصديقه جليل،والمسافة بين قاسم وجليل يصيّرها (ذكرى عاطفة قديمة / 47) إذن نجح في تدوير سرد ذاته، نجح وبتفوق في فن تعذيب السجناء، نجح مهنياً وأصبح بهذا المركز الخطير : معاون مدير أمن بغداد. وأصبح قاسم حسين منتجا لسرودٍ موشومة في أجساد وأرواح المساجين .

(*)

هل  تخلص قاسم من انشطاره مع زميل دراسته وصديقه جليل محمود؟

لا يخلو قاسم حسين من حسنات ٍ، فهو قرر أن يطمئن عائلته وعلينا تصديقه، فقد فعلها بعض الضباط في مدينتي وطمأنوا عوائل السجناء السياسيين في أبشع سنوات تصفية الحركة الوطنية العراقية في زمن الطاغية، ونقلاً السارد المحايد (كواجب شخصي تجاه صديقه، على الرغم من أن صديقه لم يكن قد طلب منه ذلك/ 44) وهناك الواجب المهني، فقد شرب عرقا حد الثمالة وجاء لينتزع اعترافا من صديقه السجين السياسي جليل محمود، ولما فشل (هوى بكفه على وجه جليل الذي بوغت بالضربة، لم يقل شيئا/ 48).. من خلال هذه الإساءة المهنية للصداقة، انتج جليل قراءة ً جديدة ً لشخصية قاسم ( يملؤه حزن شبيه بحزن من يراقب شخصا يموت أمامه، لم يعد قاسم حسين في نظر جليل محمود ذلك الصديق الواقف على شرفة الموت، بل كان ميتا بالفعل منذ زمن طويل. كان يود أن يكاشفه برأيه فيه، ولكن ما جدوى كل ذلك الآن؟) ينهار قاسم ويبكي أثناء التعذيب، ثم يغادر  ليواصل الشرب والبكاء. يبدو لا العرق العراقي الأصيل ولا غزارة الدموع الحقيقية، نجحت في إيقاظ ضميره العتيق، وها هو يحاور نفسه (أليس غريبا أن تبكي لتنسى وتثمل روحك بالعرق؟  كان صديقك ذات يوم، ولكنه أختار أن يقف في الطرف الآخر من حياتك، فماذا تفعل ؟ / 49)... بين قوسين أضع( كان صديقك ذات يوم) هذه الجملة سيكون لها تدويرا في بداية الفصل السابع ص50، حين يزور قاسم حسين،  هدى عبد القادر زوجة جليل في دائرتها، ستخاطبه (إذا كنت صديقه حقا، فافعل شيئا من أجله!)..

(*)

بالتوازي مع قاسم نلمس في السجين جليل، ما يليق بوعيه :

حين صفع قاسم جليلا ً (ظل صامتاً بطريقة جعلت قاسم يشعر بالحرج أكثر فأكثر وبالمهانة في مواجهة الضوء المتدفق من كبرياء جليل / 48)

(2) مؤثرية جليل على قاسم( عندما خرج المعاون قاسم حسين إلى الشارع حاول أن يزيح جليل من ذهنه، لكنه ظل لا صقا به مثل شبح لا يريد أن يتركه لحظة/ 49)

(3) وحين حاول قاسم، مرة أخرى( شعر أنه متعب تماما، ساقطا بدون وعي منه خارج نفسه داخل أزمنة أختلطت عليه فلم يعرف إن كان يجد نفسه في الماضي أم في الحاضر)

(4) يقصد مقهى البرازيلية  وهي أحدى عواصم المثقفين في بغداد، وهو يرتشف قهوته (.. مفكراً في جليل الذي ينبغي أن يكون جالسا قربه الآن. وشعر بحنين حقيقي أليه  جعله يقول لائما نفسه، يا لي من وحش، كيف جرؤت على ضربه سأذهب وأعتذر منه./ 54)

(5) وهو في مكتبه قرر أن ينزل إلى السرداب ويعتذر من جليل ويرجوه أن يغفر له، لكن كيف ذلك أمام الحرس الذين سرعان ما سيكتبون  تقاريرهم ضده .معاون مدير أمن بغداد قاسم حسين ما يهمه هل (سيكون قادراً على تجاوز الخجل الذي سوف يعتوره في حضوره/ 57)

(6) الماضي : لا موت ولا عودة، لكن الماضي  يتسيّد على الذاكرة ويتشكل زمنا جوانيا دفيقا في كل الأحوال، بصيغة ضمير مستتر لدى قاسم (ها هو ماضيه ينهض أمامه فجأة ويشعره بذل حاضره. كان قلقا وخجلا في آن. فهو يستعيد ماضيه وبالذات علاقته مع جليل محمود  فانما كان يدين كل الأعوام التي أمضاها في مهنته/ 59)

(7) يحاول قاسم ينتصر إلى جلال من خلال الاعتذار.. (حسنا سوف أذهب اليه وأعتذر منه ولسوف يفهم موقفي) ليس قاسم حسين الذي كان صديقاً لجلال محمود. .  بل معاون مدير أمن بغداد : قاسم   لا يقدر على الاعتذار!!،و الحكومة لا يهمها تسقيط المواطن البريء، الحكومات تفضل تدوير سرد الذات الإنسانية للمواطن تدويرا حكومياً، من خلال الترهيب والتعذيب حتى ينهار، وإذا كان بريئا عليه التعاون مع الحكومة/ 92  وفي الحالتين المواطن : مستوطنة حكومية.. كما أن الحكومة تتقن كيف تتخلص من رجالاتها وفي الهواء الطلق كما عملتها مع قاسم في الصفحة الأخيرة من الرواية

عرض مقالات: