في هذا المساء، عندما تغَرَبَت الشمس، راحت شعلة من النيران الحمراء على حافات الفضاء تلقي بضيائها الخافت على نوافذ البيوت. رغم أن البيت كان غارقا في الظلام، الا ان غرفة المكتب اضيئت قليلا بأشعة الشمس الحمراء المنسلة من النافذة المفتوحة.

    بعد نصف ساعة اختفى الشفق كليا، جلس شوان في عتمة الغسق، يلتمس احلامه الحزينة التي ترسخت في داخله، مشدودة بالأمل، ولا تَشُوبُها شَائِبَةٌ، لعله يجد خيطا رفيعا من التفاؤل ينبع من خبايا أعماقه، يستنير حنينه.  فبدلا من ذلك طفت الكآبة على الذاكرة وأخذ الحزن يستبد به، وتزداد وطأة ثقله عليه كلما تذكر أَيَّامَهَ الْخَالِيَةَ. اختلط عنده الحنين والدمع وتوهج العينين.              

    طوال السنين الماضية لم ينقطع يوما في بحثه عن الأحاسيس المفعمة بالأمل، كان صوته يرتعش من الانفعال، رغم أنه كان في تمام القدرة والصبر. كانت غرفة المكتب تبدو كأنها زنزانة رهبان، في هذا الصمت الشامل النزق وتلك الوحدة الغريبة.

    كان يمشي في الغرفة بانفعال شديد وهو يتطلع الى سقف الغرفة. وبين آونة وأخرى كان يحدق الى الخارج عبر النافذة، وهو يترقب مسارات النجوم في السماء، ويصغي لحفيف الأشجار.

    في لحظة معينة توقف في مكانه وقتاً قصيراً، لا يبدي حراكاً، متأملا فيما هو فيه من القلق والحزن. وفجأة دلف الى غرفة المعيشة، حيث تهاوى على الكنبة الكبيرة، وأغمض عينيه، ناشد الراحة والدفء وكأنه مُخَدَّراً على هذه الحافة بين اليقظة والحلم، بين التأمل والواقع في هذا الصمت المطبق.

  كانت امارات الذهول الممزوج بالألم تتدفق من وجه شوان، وكأنه في صراع مع الذات في انتظار لحظة التلاشي والخلاص من هذا الكابوس الثقيل.

    بدأ يهدأ رويدا رويدا ويفكر بصمت:     

    بعد عشرين عاما، شاب شعره، وتقدم في السن، تذكر شوان تلك الأمسية الربيعية مع نازك، كانت ليلة جميلة من ليالي مارس هواؤها عليل منعش، وقمرها ساطع. ظلت هذه الحكاية محفورة في ذاكرته، التي أخفاها بين حنايا الروح، وكبُرت أسوار شوقه لها.  كان يحبها حُبًّا جَمًّاَ أقرب إلى العبادة.                                 

   كانت نازك امرأة حسناء، لديها عينان في غاية الغرابة، لكنهما هادئتان، شعرها أسود مسدول على كتفيها، ريانة كزهرة الربيع، خفيفة كالفراشة. كانت ملامحها توحي بالكبرياء والهدوء، لطيفة المعشر وخفيفة الظل.

    كانت لا تعير الاهتمام بالأشياء الصغيرة والاشاعات التافهة، فهي تصغر شوان بسنتين، ثم أنها صاحبة قرار بشكل لا يمكن رؤيته في أي امرأة أخرى.

  كانت رسائلها ما تزال على صفحات من ورق، تنساب عليها كلماتها الانيقة وقد تحدث شوان معها مرارا حول مواضيع حتى أنها يمكن أن تكون سياسية وأدبية، وقد أعارت الانتباه له.     

  كان شوان يعشقها ويعتبرها المعنى الوحيد في حياته. استمرت حياتهما بصَّمْتِ، استمرا متحابين.

 في تلك الامسية الربيعية، والغسق أكثر زرقة والنسيم يمر بهدوء، دخلت نازك غرفة المعيشة، بملابسها الحريرية، وعيناها البارقتان تشعان بوميض المحبة والثقة بالنفس، تحمل في يدها مجلة قديمة، وانتحت في زاوية، بعد أن أسدلت ستائر النوافذ، شرعت بالقراءة، والمصباح الكهربائي مركون على الطاولة الخشبية بالقرب منها. كان شوان يتطلع الى عينيها الجميلتين بهدوء. وكانت ابتسامتها انصبت في كل عرق من جسدها.  كانت ناسك منكبة على المجلة، ترد بين اللحظة واللحظة، شعرها الذي ينهمر على جبينها.

       لقد كانت ترفع راسها، وتترك مجلتها جانبا، وكانت في عينيها بسمة صافية، حدق شوان النَّظَرَ إِلَيَّها، لمعرفة ما يدور في خلدها، في حين بصره ينزلق بمحبة نحوها، عندما عادت ناسك الى القراءة، مزهوة، كان هو يعود الى عمله، دون أن ينبس ببنت شفة.

    مضت عشرون دقيقة بعد منتصف الليل، فجأة اشرقت وجهها بنشوة غريبة، ابتسمت، كأنها قد تذكرت ذكرى ممتعة.

   نهضت نازك من وراء الطاولة حيث كان شوان يراقبها بانتباه واقتربت منه وعادت بسرعة إلى طاولتها لتقلب صفحات المجلة وركزت على إحدى المقالات. بعد لحظة رفعت رأسها ونظرت اليه نظرة ساحرة وعميقة، عادت الى القراءة وهي تنظر بطرف عينيها الى المكان هناك حيث كان يجلس شوان، ولكن شوان كان منهمكاً في قراءة أوراقه الكثيرة.

   قالت لشوان وهي ترمقه بنظرة مشرقة مرحة، تشع وجهها بسرور، ولكن بصوت خفيض ناعم:

الان انتهيت من قراءة قصة تشبه قصة حبنا، وهي تمسك بالمجلة بطرف يدها والابتسامة متواصلة والانفعال بَادٍ على ملامحها لفرط الغبطة ولكن في البداية لم يبد شوان اية دهشة وكان منهمكا في قضية اخرى.

    ارتسمت ملامح الدهشة على وجه نازك، التزمت الصمت لدقائق ريثما تعيد انفاسها، وهي تلتفت الى شوان، كانت وجهها يبدو صارما، ونَظَرَت إِلَيْهِ، وحزن روحي عميق كان يشع من عينيها العسليتين الواسعتين، وتفحصت نازك وجهه العريض البرونزي اللون ذا الشعر الأسود، والعينين الصغيرتين السوداويتين، وضعت نازك بحركة سريعة المجلة على الطاولة، ورفعت رأسها الى الاعلى كإحدى حركاتها المعتادة لم تكن غريبا لشوان: تلك الحركة العصبية التي تقوم بها، كرد فعل للمسائل التي تضايقها.

    أَجَالَت نازك بصرها فيما حولها، ومال نحو شوان، وهي تسند يديها الى الطاولة، بعد لحظات قليلة سألته بحزن، وبلهجة صارمة، قالت له:

لم تخبرني برأيك في الموضوع. ؟      

   كانت عيناها تترقبان المكان الذي يَجْلِسُ فيه شوان على الكرسي الهزاز في الجهة المقابلة لمكان جلوسها، بعد فترة قصيرة ساد الغرفة صمت مطبق، فجأة سلط شوان نظرة ثاقبة في عينيها بعمق، وارتسمت على شفتيه بسمة مختزلة، ثم قال:

عن اي موضوع تتحدثين،

وكانت كلماته تنساب بهدوء واتزان، محاولا تلطيف جو الغرفة، وأدراك ما اشْتَدَّتْ بِهِا من الْهَوَاجِسُ، القى الرجل نظرة عليها لمعرفة ما في قلبها.

  اشْتَدَّت بِهِا القَلَقُ، يصاحبها بعضُ الألم، حاولت نازك استرداد هدوئها، التي فقدتها فجأة اثناء صمت شوان، حيال طرحها موضوع حبهما، القت نظرة خاطفة على وجهه، ثم أَسْبَلَتْ عَيْنَيْهَا مُتَأَوَّهة، تتركزان على شوان، محاولا كشف السر الغامض الذي يخفيه شوان.

  شوان راودته رغبة في أن تسمع منها مرة اخرى ما تحدثت قبل قليل، ارتعشت اجفان نازك وانكمشت ملامحها الا انها لزمت الصمت وكانت صمتها حازما هذه المرة.

  شعر بالقلق لتعابير الألم التي ظهرت على وجه ناسك، اخفت ناسك وجها بيديها، وبكت قليلا ولكنها غاضبة الى حد ان دموعها لم تذرف.

     احتضنها شوان بحرارة وعانقها ولكنها لم تسعدها ولم تؤثر فيها.

     قد اثارت بِصَمْتها قلبه المعذب، حيث تركت صَمْتها هذا أعمق الأثر في نفسه.

 

 

عرض مقالات: