- حين يصيح فيه كلُّ شيء ، أنا عراقي -

عن دار النخبة  للطباعة والنشر والتوزيع – القاهرة ، صدر للروائية العراقية – نهاد عبد – خاتمة العام 2019 ، روايتها الثانية ( رأس البصلة)  Yثر روايتها البكر ( بغداد- نيويورك).

 تشتمل الرواية على ثلاثين فصلاً سردياً تتوزع على  319 صفحة من القطع المتوسط.

تدور احداث الرواية مكانيا بين بغداد – القاهرة – امريكا.

تغطي الرواية حقبتين من حرب الخليج الاولى والثانية باحتلال بغداد من قبل دول التحالف بقيادة وتدبير من الولايات المتحدة الامريكية بعد ما سعى النظام الدكتاتوري في العراق في السنوات الاخيرة من القرن العشرين بهجومه على دولة الكويت التي تمثل صادرات نفوطها نسبة كبيرة من اقتصاديات نفط السوق العالمي من ثم ما جرى من دمار وخراب وتغييب وتهجير لشعوب بلاد عُرفت عاصمتها – بغداد – بدار السلام.

عنوَنة الرواية:

عنوان كهذا  ترميزٌعلى زهد الدنيا. استعارة بتأثير من البيئة المجتمعية المصرية. يقابله التعبير – قشرة بصلة - لدى العراقيين للدلالة على ضِعَة الشيء وتفاهته ، عبارة نصيّة ضمناَ قُصِدَ بها حال الدنيا التي لا تساوي رأس بصلة إذْ هي زائلة في كل الأحوال. بهذه النظرة الحزينة تحيلنا الاشارة هذه إلى قول خليفة المسلمين علي بن ابي طالب (ع) ورأيه في حال الدنيا: دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز.

السرد

تعتمد الكاتبة السرد المتسلسل سيما في الفصول السبعة عشر الأولى ، حكايات وقصص عن معاناة  لنماذج من عوائل عراقية تعيش في ( حي المأمون وحي التربية )، تفاجأت في ليلة ظلماء بوابل من قصف صاروخي  اشتعلت سماؤه بألسن من لهب تزفرها تنانين ديناصورية. ولما كانت  تتنوّع الرؤية السردية على مدار احداث الرواية  فان رؤية الكاتبة تتجلى في التبئير السردي باعتبارها شاهدة حدث تعايشت واليومي لما عانته العائلة العراقية من رعب وخوف وجوع ومرض وارهاق بسبب من حصار مقيت مدمر دام سنوات شلّ البلاد من ثم تمخض عن تدمير البنى التحتية بدءاً من العاصمة  بغداد .

واذ نتلمس وجود الروائية عبر تسلسل احداث السرد من خلال راوية رئيسية – ميادة - الناقلة لجملة من حكايات غطت سبعة عشر فصلاً من فصولها الثلاثين، يتشظى عبرها السرد من ثم يسترد لاحقاً عافيته الجمالية.

تفاصيل

فاتن السرّاج أمٌ موظفة في وزارة التجارة العراقية، بصراوية تميل للتصوّف تجد متعتها في الروحانيات " حساسة وحالمة" ، صوتها شجي خصوصاً حين ترتل القرآن.. تعشق الآداب والأهم انها " لا تعرض عن الحياة الدنيا  اسوة بغالبية المتدينين"– ص284  

متزوجة من استاذ جامعي ( د. غيث عبد الحميد) يعطي دروساً في علم الاجتماع ، يحبها وتحبه.- على أن سرعان ما تتكشف الأحداث عن خيانته لزوجه. تحفر الكاتبة في جذور الخيانة، عن الخطأ الذي يجر وراءه سلسلة من خيانات غريبة. ومن بين ما تكتشفه ان انصهار الزوجه بشخص زوجها سوف لن يتيح للزوج فسحةً من التلذذ في التودد اليها. وتستدرك على لسان الأم فاتن " هل ان للخيانة جينات وراثية ..؟" وكما عانت الأم من خيانة زوجها يجري الحال ذاته على ابنتها – ميادة- .

تغدو الخيانة بازاحة من الروائية، نواةً لحربٍ ضروس. فخيانة الزوج لزوجته تؤسس لخيانات كبرى لا تغتفر ولا غرابة أن تنسحب في مقدمتها على خيانة الوطن. على أن لا يفوت الكاتبة " العقاب الشكسبيري" – حين يعاني الجاني نتيجة ما أقدم عليه من خطأ - The doer must suffer  ، فيتحقق عقاب الخائن بطريقة مأساوية  فائزا بالخذلان!.

الجانب الرمزي

لعل مشهد خيانة الاستاذ الجامعي لزوجته والذي انعكس في مسلسل الخيانات للمرأة – الوطن- باعتبارها نواة وحدة العائلة، فضلاً عن خيانات مماثلة بحسب ما اشارت الأم – فاتن - تمثلت بخيانة الجد من ثم الابن وبعدها عريس ميادة الصيدلانية أبنة فاتن وردّة فعلها، مما حدى بالعائلة للهجرة مرة اخرى – سبق ان هاجر الأبناء الثلاثة إلى المانيا – ولم يبق من العائلة سوى الأم وابنتها في تيه من رهاب واضطراب يقض عليهما مضجعيهما ويثير المواجع .

تعرج الكاتبة على ذكر الخلافات الطائفية والفلتان بغياب القانون واستشراء الفساد وتفاقم الجريمة         وانتشار احزاب وملل تسجر نيرانها العنصرية والأثنية بين الآمنين، فلا غرابة أن يهاجر الناس بحثا عن خلاص، ويضيق المشهد " الناس الجيدون يذهبون بسرعة" ص178

رمز الوطن يتردد غالبا بين ثنايا السرد ،  فلا شبيه له عدا الأم " شعرت ميادة بحاجة مربكة لمشاركة أمها سريرها.. لعلها تشم في أمها رائحة الوطن الغائب" ص242

نَحَت الكاتبة إلى التركيز على الجانب الرمزي لما فيه من تكثيف، ولم يفتها الوصف النفسي الدقيق لمشهد رقص – ميادة مع عريسها وانفعالها وهي تؤدي حركات راقصة ، يصعب اداؤها ، أذهلت الحضور، هي العارفة انما تراقص عريساً خائناً لا يختلف عن من خان امها!

تنطوي خاتمة الرواية على أفق التجربة الشخصية للام فاتن المتأثرة بالماضي وأفق التوقع المستقبلي بالاشارة المتفائلة والمصرّة على أن " عطر الرجال أوطان " هذا التخليق الجمالي لعالم  باعث على الحنان والاحتماء به واستقرار شخوصه مجتمعياً عَبْرَ ادانتها للخيانة والحرب معاً ، ذلكم ما تؤسس له الكاتبة بمران.

المبنى السردي

مدخل الرواية شيّق يحاول جذب القاريء ، وأول ما يُذكّر بالقص البوليسي للكاتبة اجاثا كريستي.  يبقى الحدثُ غامضاً شأن السر وراء دخول الموظفة " نيفين" صديقة " ميّادة" إلى حجرة رئيس قسمها.في محاولة لشد القاريء بينما تملي الكاتبة قناعاتها بما تستعرضه من فضاءات ميتاسردية على اكثر من راوٍ لوقائع الحصار والحروب ومعاناة الناس الابرياء.

خلل ذلك الاستعراض ينسلُّ خيط استشراء الدمار مخلفاً شبح الحرب وتأثيراتها في تفشي الفساد والشذوذ لدى المراهقين – الطفل خالد وخاله عزيز- وحالات الكبت الجنسي متمثلا بصديقة ميادة الطالبة – لمى -، وعلى ذات المسار عنينيّة قاسم وفشل علاقته الزوجية  وما يفرضه من عنف أسري، كل هؤلاء ضحايا الحروب والتقاطعات والبطالة  فكيف لا ينتشر سرطان الخراب بين مفاصل المجتمع!.

تقوم الرواية على تلخيص برْقي تعتمده الشخصية "ميادة "بعد زجها في السجن لطعنها عريسها ليلة الدخلة. ثمة تواصلٌ شيّق من القص داخل القص تعتمد فيه الكاتبة إلى تقنية  ذكية تتمحور حول الربط بين مرويات الطفولة والصبا  فتلظم  حبات السرد  باسلوب خاطف من قص حداثوي يدور بين الصبية – هنيّة – السجينة المصرية والصيدلانية – ميادة – العراقية  في حكايات مقتضبة مبتورة مشوّقة تتناوبان على قصّهما طيلة ايام الاسبوع، " لاطفاء جزءٍ ملتهب مما يمور في دواخلهما " بذلك يهون الأحساس بالمصائب الشخصية" بمثل هذه الالتفاتة الذكية تلخّص الكاتبة مهمة الأدب الإبداعية.

فهي  تنفّس باسلوب الخبير عن شحنتها السردية كالنافخ في الجمر كيما يتشظى الحكي شرراً بقصدٍ دال ذي مغزى!

تستنطق الكاتبة المبرر لهذا بالاستنتاج  الصوفي : "منحة ٌ للراحة .. تقربنا من الراحة الأبدية"

خاتمة

على الرغم من طبيعة استعراض واقع ما عانته العائلة العراقية عموما سواء فترة الدكتاتورية المقيتة او الحروب التي تلت والتي تفجرت سمومها وخرابها على الناس والزرع في حصار ودمار، حروب تنمرت باحتلالٍ لم تشهد مثله بلدان العالم المحتلة بغضاً وعداءاً على أن مؤلفة الرواية سعت بكل جهدها للنفخ في رماد الوطن خارجةً برؤية لا تخلو من تفاؤل نجحت في صياغتها ابداعيا على الرغم من المآسي والتهجير والاقصاء وخيانة اقرب المقربين اليها من الناس، الا أن الأمل يبقي متلألئاً في عطر الرجل العراقي المثال الذي أنّى يتواجد حتى ما بين الأرض والسماء فعطره يعود لا ليهمس فحسب بل لتصيح كل ذرة فيه:  أنا عراقي!

 

عرض مقالات: