(1)

ما الشِّعر. فحم أم ماس؟

ولكن هل للفحم والماس سحرٌ سوى ذلك التّحوّل من الشّائع (الأصلِ) تحت ضغط هائل من التفاعلات إلى النّادر(المستنبَطِ المبتَـكَر) الثّمين؟. وأيضاً ما هذا السِّحر الذي نسعى بكَـدّ إليه: سحرُنا في الشِّعر، أم أنّ للشّعر سحراً فينا؟.

من جهتي حتّى الآن هو: قصيدة النّثر، بوصفها قوّة جماليّة معرفيّة حرّة تبحث في ثقافات العالم والإنسان والأشياء؛ بحثَ مُتَـقصّ مُكتنِه راءٍ، لتؤسّس لأشكال افصاحٍ متواصلة التّحوّل للتعبير عن تلك الثّـقافات، بعيداً عن كلّ صِيانيّة وترميميّة. وبهذا يكون الشّعر وفقاً لهذه الرؤية هو عيشنا الجماليّ والثقافيّ الذي ليس لنا نحن شغِّيلتَه وجود شخصيّ مؤثّر من خارجه. الشّعر بوصفه سحراً هو ما لا نخفيه وما لا نعلنه، كي يظلّ ساحراً ونظلَّ ساحرين به ومسحورين، وبما أنّه وهمٌ لأنّه سحر فلا يمكن مطالبته بما هو خارج وجوده اليوتوبيّ هذا. من هنا تظلّ القراءات والدّراسات الدّارجةُ للشّعر في معظمها مسترخية، وغالباً ما تكون جبانةً لأنّها لا تجيد ألعاب مثل هذا النوع من السِّحر. ذلك هو سحر الشّعر الصّيروريّ الذي ما عاد مُتعيّناً عليه أن ينجز المعنى ذاتَه، بل التباسات هذا المعنى وظلالَه وحدوسه وآثارَهُ، أي إنّه أقرب ما يكون إلى الصّوفية التي تتناغم فيها حركاتُ المُتناقضات: العلويّ/ بالأرضيّ، الباطنيّ/ بالظاهريّ، الغاطس/ بالعائم، والعالَمُ الكائن/ بالعالَم الذي سيكون.

ذلك هو الشّعر بوصفه أرومَة سحريّة مُتعذّرةً على كلّ سطحيّة للفهم، لأنّه تشرّب بالميتافيزيقيّات (السِّحريّات) فصار مدهشاً بعد أن صار رائياً، وصار عَرَضاً بعد أن كان جوهراً ثابتاً. صار عابراً لحدود سحر جنسه إلى أسحار الكتابةِ، عابراً إلى شِعريّة النّثر. وليظلّ سحريّاً لا بدّ أن يظلّ فعلاً لازماً كونه قوّة مهذَّبة وغيرَ معقولةٍ، كونه نابعاً من عجزنا عن تفسيره تفسيراً نهائياً وحاسماً، وكذلك من قدرتنا على تأويله دائماً بأشكال ودلالات عدّة متباينة ومتواصلةٍ، كونه في الوقت نفسه موجوداً من خلال علاقاته مع ما حوله بوصف هذا الماحولَ فعلاً متعدّياً. من هنا يأتي التعلّق بالشّعر سحريّاً بوصفه رؤيا شمولية وشخصيّة معاً في النّظر إلى اللغة والمعرفة والعالم والإنسان والأشياء. إنّه بكلمةٍ: مثير اشكاليات لا واضعَ حلول. الشّعر يتطلّب اكتشافاً مستمرّاً وتخليقاً لأساليب تنسجم وهذا التّطلّب، بسببٍ من أنّ هذه الأساليب بوصفها أشكالاً لابدّ وأن تتحوّل إلى أعراف ترسَّخُ استخداماً بعد آخر فتضربها القَدامةُ والاستهلاك، وما من سحرٍ البتّة في كلّ قالب وعُـرْفٍ وتقليد.

سحر الشّعر يكمن في التّحوّل والغرابة والدّهش والذّهول واللعبِ في الأعماق بالجواهر، ومعاشرةِ عرائس البحر والجنيّات وترويض الكواسج وتلقين الدّلافين دروساً في الدّهاء. سحر الشّعر أن يتعلّم العالَمُ قراءة طوالع المجهول وفكّ طِلِّسماتهِ. من هنا يتموّن الشِّعر بسحره، ومن هنا أيضاً لا حدّ نهائيّاً لأشكاله وأساليبه وطرق تعبيرهِ، غير أنّ هذا السّحر لا يعني أن يلعب: (فوقَ) ذلك أنّ هذا اللعب لفوقيّته سيجعل الشّعر منعزلاً ومضجراً، كما أنّ لعبه: في (العمق) سيجعله منقطِعاً عن العالَم، مثلما أنّ عَـوْمه على (السّطح) سيجعله مألوفاً ساذجاً ومبتذلاً.

على وفق هذا الفهم لقصيدة النّثر: الشّعر حرثٌ في الاتّجاهات كلّها، وسَيّارٌ طيّار مَشّاء عوّام غوّاص وكشّافٌ في آن. من هنا يكون أعمق ما يتبنّاه الشّعر هو تلك الطبقات المسكوت عنها من العيش والثقافة والتّاريخ، من الأسطورة والواقع، من المألوف المُتحوّل إلى لا مألوف، أي من المُختلِفات والمُؤتلِفات في آنٍ معاً.

(2)

إنّ خروج الدّال الشعريّ إلى البريّة هو بالمعنى اللّازب للكلمة خروجُ المدلول نفسه إلى البرّية. وما تعثّرُ أغلب قراءاته إلّا بسببٍ من مفترقات هذا الخروج وانعطافاتهِ، مما عطّل فاعليّة هذه القراءات، التي يمكن تسميتها بالدّارجة، لانحراف الطريقة الشعريّة عن دارجها هذا الذي ضربته السّكونيّةُ فتحوّل بالتّـقادم من مُنتِج  إلى مُنتَج مُستعاد. وما هذا الخروج بالتّالي كما رآه هيثُ إلّا ((تأسيس صيغة لكتابة تحرث اللغة، مخلِّفةً شكّاً، وجاعلةً المدلول يترنّح دوماً في الدّال، لكي تبلغ في كلّ لحظة دراما اللغة نشاطَها المُنتِج)).

الشّعر هنا هو قبل كلّ شيء حياكة وتطريزٌ يدويّان فريدان، ولكن وفقاً لتلك العلاقة ما بين المُسمّى: الإنسان، الواقع، الحضور، الطّبيعة، الحياة، التاريخ...، وغير المُسمّى: المجهول والغياب. الشّعر بوصفه قصيدةَ نثر صيرورةٌ تؤسِّس لسحرها هذا، وترسّخ له لتكون كتابة نوعيةً من الفِكْر والشكل الفعّالينِ، ولتكون بالمغزى الأكثر خصوصيّة وسحريّةً للكلمة شعراً لا يُكـتَـب بالعادة والسّليقة ولا يُتلقّى، وإنّما يتطلّب قارئاً باصراً مُلِمّاً نوعيّاً، يديم ثقافته كما يفعل شاعر هذا النّوع من الكتابة الشعريّة.

ولكن أليس جوهر الأشياء- فلسفيّاً- بطبيعته ثابتاً كونه لا يتجزّأ، وهذا لا يمكن أن يعني إلّا تناقضاً في تكوين الشّعر كونه واحداً من هذه الأشياء؟. إذاً أين تكمن المقاومة، مقاومة الوجود الشعريّ لمثل هذا التآكل أو الانعدام الذّاتي؟. من هنا جواباً على ما تقدّم يجيء التأكيد على الكتابة والقراءة السّحريتين المعرفيتينِ للشعر، إذ إنّ السّحر لا جوهر ثابتاً له ذلك أنّه (عَرَض) دائماً. من هنا الشّعر بوصفه قصيدة نثر في تحوّل دائم من جوهريّته إلى عَرَضيّته، وهو بهذا متحرّك الجوهريّة إن جاز التّعبير، على العكس تماماً من الجوهر الأصيل للشّعر بعامّة الذي عندما تشكّل أوّل مرّةٍ لم يتغيّر ولم يتبدّل إلّا جزئيّاً، كونه فاقداً لحركيّة دالّه وبالتالي فقد حركيّة مدلوله.

عرض مقالات:

مقالات اخری للكاتب