في كتاب حسن العاني “وجوه وحكايات” نتلمس منذ البداية الجمال عن قرب وبين السطور والتخلي بترفع، وفن صياغة المآزق الحقيقية والمقالب المحرجة بتذوق فني تغدو فيه الخفة صنوا للثقل، هو يستعيد ذكريات قلمه الصحفي كمن يروض الألم حتى يحببه لقارئه محولاً مرارة القساوة الى اللامبالاة على الرغم من اكتنافها للكثير من الخوف والضياع، كتاب يعلمنا أن نقول كل شيء أو الكثير منه بكلمة عابرة أو نص مكثف، وعليّ الاعتراف هنا إني لم أكن أعرف هذا الكاتب سوى قاصًا مهمًا وبارزًا من قصاصي العراق إلا أنني بعد أن قرأت كتابه هذا شعرت وكأني تعرفت على سيرته أو جالسته فحدثني بعفوية عن سنين مضت وأيام لن تعود، رغم أننا هنا لسنا أمام سيرة ذاتية بالمعنى الحرفي للكلمة، بل مجموعة من المقالات والنصوص والأعمدة الصحفية التي تضمت مشاهد ومواقف وتعريف بطباع وشخصيات، كتبها العاني منذ أوائل الستينات الى الألفية الثالثة بطريقة منمقة بشكل رهيف، توريات وكنايات تتدفق مع خفة قلم بأسلوب ماكر في بعض الأحيان، ساخر في البعض الآخر ومن المؤكد هي ليست كل ماكتبه إلا أنها تمثل بشكل من الأشكال واقعنا النفسي بكل همومه ومخاوفه وأحلامه وآماله، فشلنا قبل نجاحنا، خوفنا من السلطة، حرصنا على الصداقات الصادقة العميقة منها والسطحية، ذر التراب على هلعنا ونحن نواجه ما تبقى فينا من قوة لم تنكسر وأمل لم يتفتت بسبب بطش النظام أو اشتراطات الفقر والحاجة، والحفاظ على القيمة العليا للمهنية وازدراء قضايا التنصل عن المبدأ  التي نشعرها حين نقرأ  قراءة حرة  تتجاوز المكتوب في كل سطر منها، لنجد في هذه المقالات نهايات مباغتة تأخذنا نحو ذكريات مشتركة في جزء وجيز منها، ذلك أنها أوجه الحكايا الطويلة التي لامست رعيلاً من مثقفينا وأدبائنا في مراحل مختلفة من عمر العراق الذي أغدق تاريخه.. حكايا ومشاهد كانت آمال اكتمالها على وجهها،  وواقع ترسمها في قصص وأحداث مبتورة وكأنها سلخت من المعنى والضمير بصورة مبسطة مطواعة تذكرني بقول لغسان كنفاني مفاده أن ليس بالضرورة أن تكون الاشياء العميقة معقدة وليست بالضرورة أن تكون الأشياء البسيطة ساذجة.. إذ يقول: “إن الانحياز الفني الحقيقي هو كيف يستطيع الانسان أن يقول الشيء العميق ببساطة. “

وقد واجهت كتابات حسن العاني مصدات عديدة فيما ارتقى سلالم حفرت اسمه في مدونة الثقافة والإبداع.. مانحا الآخرين رخصة الدخول الى ابوابه ودهاليزه وهو الذي عرف بدماثة خلق ومعبأ بالحزن من دون ان يظهره الا ساخرا فكها قاهرا .

الكتاب ضم أبواب أربعة قسمها كاتبها إلى ( شخصيات سياسية وأدباء وفنانون وصحافة واعلام وشخصيات عامة) وجاءت مقالاته غضة طرية تصف الحالة العامة وتداعياتها على الحالة الخاصة للفرد والتي لا تخلو دائما من وجهة نظر تظهر على شكل طرفة مرتبطة بحدث لا ينسى في مخيلته وبما تحمله من أثر نفسي كبير كالشعور بالأسف أو الندم أو الخوف أو الدهشة أو الامتنان والثناء،  فهو يعرض الأحداث بتفاصيلها وإلتباساتها ولا يذكرها ذكرًا عابرًا على الرغم من أن مقالاته تميزت بقصرها فهو محدد بعمود وعدد من الكلمات التي كثفها صاحبها باتقان ملموس ودراية تختصر الطريق .

المؤلف لم يكن دَعيّا ولم يطلب بطولة من أي نوع لغرض التباهي أو إضفاء شرعية ما على مسلكياته اللاحقة لأي مقال يكتبه ولم يسخّر قلمه للتشهير بالآخرين بل تحدث عن مسيرة عمل في مجلة “ألف باء” وكتابة في الصحف مثل الزمان والصباح والصباح الجديد والحياة اليوم وصوت الآخر ومجلة الشبكة العراقية والكثير من الصحف الأخرى التي دوّن فيها تردده إلى جانب شجاعته وثباته، وانتظاراته وانكساراته وخيباته، ولعل هذا كما يقول إلياس فركوخ “يشكل بطولة وموقفًا يتوازيان مع كل أشكال استنفاد رصيد الماضي وإخفاقاته”.

وفي علمنا أن العمود الصحفي يتميز بتقديم الرأي في كل المواضيع المثارة في وقت معين مما يحتم عليه التصاقه بالاحداث الجارية مع اهمال المرجعيات والتوثيق بالتواريخ والامكنة وهذا ما تجاوزه العاني حفاظا على العمر الافتراضي للعمود بدلالة تأثرنا به في الوقت الحاضر الامر الذي يبين أن العمود الصحفي لدى العاني واضح المعالم ولا يشوبه الالتباس. انه يقدم حالة نقدية مبطنة لوضع يسعى لتغييره أو يلفت الانتباه نحو شخصية أدبية تأثر بها أو يعرض لأسماء  يلتمس فيهم نبوغا ويستبشر بهم خيرا  أو يؤرخ مواقف لسياسيين وأدباء وفنانين بل وحتى الناس العاديين.

عرض مقالات: