في كتاب فرانك الغار الذي ترجمه د. معتز عناد غزوان عن الاعمال الاولى لـ (جورج براك)- نتبين علاقة براك، قبل تعرفه على بيكاسو، مع الفن الانطباعي، مثلاً، لدى (سيزان)، كذلك تأثره بـ (هنري ماتيس)، في توظيف (قوة اللون) واستثماره لأساليب الوحشية، والتجريدية، والتكعيبية بتكوينات تشكيلية مبتكرة ببعدها الحسي والشكلي (البصري) – وكأنه يحاول ان ينقل روح الموسيقى، واحد اعلامها (باخ) بطريقة تختزل الآلات الموسيقية مع الات قصدية يتطلبها فنه الجديد في رسم اللوحة.
براك اراد ان يؤول الواقع بالفن الصرف، من غير البحث عن دلالات فكرية، فالمهم عنده: خلق واقع خيالي مغاير، لأشكال الطبيعة المعهودة: برسم غليون، وقدح زجاجي، بأسلوب مبسط، لا يستخدم في تخطيطاته (الحبر) ليظهرها بجمال ساحر، ففي لوحته (منضدة الموسيقيين)، يمزج الرمل مع اللون بقوة خيال ابتكاري، لتظهر اللوحة بصلابة وقوة. بعد ان يفكك الاشكال الى عناصر بنائية اساسية- او يرسم اللوحة متوهجة باعتماد (بقع) لونية كبيرة، متباينة هندسياً، وزخرفية، من غير بؤرة مركزية سيادية في اللوحة، ويقدم لوحات اخرى (امرأة مع جيتار) بعطر نسائي حاضر فيها (براك) كان مهموماً، بالطيور والمرافئ البحرية، بأساليب رمزية اللون، كما لدى (هنري ماتيس) (1869- 1945م) في صفاء الالوان، واستثمارها، لمساحة اللوحة، ومن داخل عناصرها، ومفرداتها- ومن ثم يتصل بوعي كامل (بالمدرسة التكعيبية) ليصبح مع (بيكاسو) من مؤسسيها الاصلاء- وهو يقول: (كنت تكعيبياً دون ان ادرك ذلك)، وتتنامى في لوحاته اتجاهات عمودية، للبيوت، والالوان المنفصلة، والسطوح الهندسية (المبسطة) والات موسيقية ومناضد وصحون، بتجريدها من ابعادها واظهار البعد التقني المبتكر، في اشكالها وعلاقاتها، ومضامينها- بالوان الاسود، والبني والرمادي والازرق، ربما تجد تأثيرات (براك) و(بيكاسو) على الحركة (الفائقية) (Supermatisme) فيما بعد في عناصرها الهندسية المسطحة، بدوائر، ومستطيلات، ومثلثات، كما لدى (ماليفتش) على سبيل المثال- وحتى في الانطباعية الجديدة، التي سبقت (براك) تقنية، بخطوطها المؤلفة من (نقاط) صغيرة، متصلة – (سوراه) مثلاً.
او فيما تلته من تجارب الفن المبسط المختزل (Minimal Art) والمبسط لدى الفنان من خطوط واشكال والوان او في بنائية الروسي (تاتلين)، التجريدية المكتفية بجماليات خطوطها ومسطحاتها (...) وتعالى هذا الضرب من التجريد، باعتماد منهج (كاندنسكي) الخاص بكيفية التعامل الشكلاني، بلمحات من افكار، واحاسيس وانفعالات وجدانية، لكنها لا تشخص على طريقة، المماثلة، او التقمص في اسلوب (محاكاتي) للواقع المعاش، في مظهره الخارجي المألوف.


وكذلك (بابلو بيكاسو) – (1881- 1973م) في لوحاته الشهيرة، (آنسات آفينيون) و(المرأة الباكية) و(جورنيكا) وسواها:-
عرفت (التوحشية) (Fauvisme) بتحريفها (للاشكال)، بالوان صارخة، وتغيير حجومها، كما في رسومات (هنري ماتيس) و(موريس فلامنك) استقرت الفكرة الهندسية لدى (براك) و(بيكاسو) على نحو يخص (التكعيبية) (Cubism)، المغاير للنزعات الواقعية المعهودة في الفنون التشكيلية السابقة وفيما اقترحه (جورج براك) (1882- 1963م)، فلم يكتف بصداقته (بيكاسو) الرسام، بل تعمقت علاقته مع الشاعر والكاتب المسرحي والناقد (غيوم أبولينير)- من لوحات (براك) – (الرجل الطويل) و(الفتاة نود)- و(آلة الكمان والابريق) في مساحات وخطوط ومنحنيات، واشكال اسطوانية ومخروطية، ومواد: مثل الرخام والخشب، او (حروفية) كما في لوحته (الرجل البرتغالي)- وبقي يقدم نسقاً جديداً لمعالجة (اشكالية تخص وضع التكوينات بثلاثة ابعاد في الفضاء وعلى سطح ببعدين!)، وبأجزاء متباينة، ما بين غبشها وعدم وضوحها على سطح اللوحة، ولكنها مرئية بدقة في مكونات اللوحة الداخلية.
تميزت طريقة (الكولاج) لدى (براك) بتقنية اللصق، لقصاصات ورقية من نوعيات والوان مختلفة او اقمشة، كالذي برع فيه (ارنست) و(دوشان)- في اعمالهما الفنية. بات (براك) من رواد الفن الحدي، عل مستوى المغايرة في موضوعات لوحاته وصيغها، واستقلال اشكالها الفنية المضادة لطرائق المحاكاة التقليدية القديمة. مما اضفى عليها طابعاً متحررا، في تلمسها للأهداف الابداعية.
يحرص المؤلف (فرانك الغار) على اقتران كتابه بملحق يمثل ابرز لوحاته، وكذلك صوره مع الفنانين الكبار- وحرصه على انتقاء لوحات لكل واحد منهم- الكتاب يسلط الضوء على فنان عبقري من رواد الفن التكعيبي، ويحسب للدكتور معتز.. هذا الانجاز الترجمي، لكتاب من القطع المتوسط، ولكنه بالغ الدلالة والاهمية في التعريف بالفنان العالمي (جورج براك).

عرض مقالات: