يعد الشاعر عريان السيد خلف أحد أعمدة الشعر العامي (الشعبي) في العراق، حيث بدأ بنشر قصائده مطلع الستينيات ومن ثم أصبح أحد أشهر الشعراء الشعبيين. وعمل الشاعر الراحل في الصحافة والتلفزيون وحصل على جوائز وشهادات عدة، وله العديد من الدواوين الشعرية. توفي خلف يوم الخامس من كانون الأول عام 2018 في مدينة الطب بالعاصمة بغداد، نتيجة وعكة صحية ونزيف في الدماغ، وتم تشييعه في بغداد بحضور عدد كبير من الشعراء والمثقفين.

نشأة ريفية

خلدون عريان السيد خلف نجل الشاعر الراحل تحدث عن حياة والده قائلا إنه ولد عام 1945 في منطقة قلعة سكر بمحافظة ذي قار حيث قضى فيها صباه وشبابه، ولكن العائلة هاجرت إلى بغداد لأسباب اقتصادية. وأشار إلى أن والده ظهر لأول مرة عام 1967 في برنامج المواهب الشابة الذي كان يقدمه الشاعر سالم خالص أبو ضاري، وفي تلك المرحلة كان يعمل في معمل الشابي لإنتاج المشروبات الغازية، وقبل ذلك بقليل انتمى للحزب الشيوعي الذي كان قد سطع نجمه وسط القوى السياسية المختلفة، واستقطب أبناء الفقراء والشرائح الكادحة.
من جانبه يلفت الشاعر العراقي كاظم غيلان إلى أن السيد خلف نشأ في بيئة ريفية تقع ضمن مدينة الناصرية بمحافظة ذي قار جنوبي العراق. ويضيف غيلان أن تلك البيئة ظهرت بوضوح في المنجز الشعري للسيد خلف، مما جعله متميزا بين أقرانه وبين مختلف الأجيال الشعرية التي كتبت الشعر العامي العراقي.

مسيرته الشعرية

وعن بدايات السيد خلف الشعرية، يقول الروائي نعيم آل مسافر -وهو ابن اخت الشاعر الراحل-، إن السيد خلف كتب الشعر منذ نعومة أظفاره، ونقل عن الدكتور علي جواد الطاهر قوله إن الشاعر الراحل “ارتفع بالشعر الشعبي السوقي إلى مصاف الفصيح”.

اعلان

وشهدت فترة أواخر الثمانينيات والتسعينيات قمة نضوجه الأدبي وعطائه الشعري، وكتب فيها قصائد مهمة، مثل “عاذرك” على صعيد الغزل، و”صياد الهموم”، و”بعد لا تظن”، وقصيدة “ولا جنّي”، وكذلك قصيدة “شاهد العصر”، حسب نجله خلدون. ويضيف خلدون أن عطاء والده الشعري استمر إلى عام 2003، وبعد الغزو الأميركي للعراق والفوضى التي عمت البلد أصيب الشاعر الراحل بخيبة أمل كبيرة، واستمر بالكتابة لكن بصورة أقل.
ويرى غيلان -رفيق الشاعر الراحل -أن مفردات السيد خلف التي تناقلتها الذائقة العراقية الفنية هي مفردات متداولة وبسيطة، لكنه تفوق في عملية توظيفها بما يضمن لها الانتشار؛ بسبب حياكتها الفنية المتناسقة مع الذائقة الشعبية العامة، ومختلف الشرائح الشعبية البسيطة.
ويقول الشاعر علي المنصوري إن عريان السيد خلف أضاف للشعر العراقي الرصانة والسرد الجميل الذي يتصف بأنه لو رفعنا بيتا من قصائده لوجدنا فراغا كبيرا بالقصيدة. ويلفت إلى أن الراحل تأثر بكثير من الشعراء، منهم علي الشباني وشاكر السماوي وعزيز السماوي، وشعراء ذي قار المهمين، لكن التأثر الواضح بتطور القصيدة هو من خلال مظفر النواب. الشاعر علي المنصوري يرى أن عريان السيد خلف أضاف للشعر العراقي الرصانة والسرد.

تنوع القصيدة

ربما يتفرّد عريان في أنك عندما تقرأ قصائده لا تكاد تميز هل هو يتغزل بحليلته أم بانتمائه اليساري أم بوطنه أم بجنوبيته وقراه الغافية على ضفاف مدينة الغراف، كما يقول آل مسافر. ويتابع آل مسافر “عندما يعشق العراقي يقرأ لعريان كي يخفف وجده ويرسل لحبيبته أشعاره، وعندما يحزن يقرأ له كي يخفف حزنه، وعندما يريد التعبير عن وطنيته كذلك، أي كلما ألمَّ به شيء لجأ إلى عريان”. ويعتقد آل مسافر أن سر ذلك يكمن في صدق الشاعر الراحل وحبه للناس وثباته على مواقفه الوطنية والسياسية والإنسانية بمختلف الظروف دون أن يتنازل عن ذلك قيد أنملة.
ويبيّن غيلان أن قصائد السيد خلف السياسية كانت متداولة بالمستوى نفسه الذي تم به تداول قصائده التي تتميز بطابعها الغزلي أو العاطفي، فكان خطابه متوازنا بين كل الموضوعات التي تهم الإنسان، ولهذا امتاز واشتهر أكثر من غيره من أقرانه ومن أتوا بعده.
ويرى الكاتب العراقي أحمد الملاح أن قوة السيد خلف تكمن في أنه استطاع تطويع المفردة العراقية الخالصة في صور شعرية عبّرت عن وجدان الشعب العراقي، فكان بحق مدرسة من مدارس الشعر الشعبي العراقي.

الحسجة الجنوبية

مثلما أضافت مسرحيات شكسبير للغة الإنجليزية؛ فإن أشعار السيد خلف أضافت إلى اللغة الشعبية العراقية الجنوبية، وأصبحت مرجعا لها، ورفدتها بكثير من المفردات الجديدة مثل “عطشتك”، على حد تعبير آل مسافر.
ويقول الشاعر العراقي ضياء الحلبوسي، إن شعر السيد خلف تميز بحسجته الجنوبية التي ظلت متلازمة في كل قصائده لولعه ببيئة العراق الجنوبية وثقل كلماتها ورزانتها. و”الحسجة” التي استخدمها الشاعر الراحل في مفرداته مستمدة من البيئة التي عاشها في وسط الجنوب العراقي، وهي مفردات متداولة في يومنا هذا، وموروثة عن الآباء والأجداد، وتعني اللهجة البعيدة عن المتداول في لهجة المدينة، كما يفيد غيلان. وقال الحلبوسي إن السيد خلف خطّ له لونا شعريا خاصا به، وحمّل قصائده بروح منه فكل من يسمعها يعرف أنها لعريان. وتابع أن “أغلب شعراء العراق يعدّون السيد خلف مدرسة شعرية، لما أضاف من قيمة تراثية للشعر العراقي ولأنه كان معاصرا لخمسة أجيال مضت، كما تتلمذ وتخرج على يده كبار الشعراء”.
وينوه الكاتب الملاح إلى أن عريان السيد خلف امتاز في شعره إضافة لجزالة القصيدة وعظم الصورة الشعرية وغزارة الإنتاج، بكونه أيقونة في الإلقاء الذي أضفى على قصائده مزيدا من التميز.

أبرز أعماله

وعن أبرز أعماله الشعرية يقول غيلان، كان إصداره الأول للشعر “الكمر والديرة”، في سبعينيات القرن الماضي. كما أنه كان من أحد الشعراء البارزين المشاركين في مجموعة قصائد “الوطن والناس” التي أصدرها الحزب الشيوعي العراقي عام 1973، حسب غيلان. ويشير إلى مجموعته الشعرية الأخيرة “تل الورد” التي صدرت قبل رحيله بأعوام، وكتب مقدمتها الشاعر الكبير مظفر النواب.
ويذكر الروائي آل مسافر مجاميع شعرية للسيد خلف منها: كبل ليلة، والمواسم، وشفاعات الوجد، مؤكدا أن جميع أبيات وقصائد الشاعر الراحل متميزة، ولكن من القصائد التي عاشت في وجدان الناس: ردي ردي، ونذر، والقيامة، وصياد الهموم، والشاهد.
ويفيد الشاعر المنصوري بأن السيد خلف كتب للعديد من الفنانين، ومنهم كريم منصور وقحطان العطار وسعدون جابر وسامي كمال، وأن هناك أغاني كثيرة من كلمات عريان السيد خلف.

أصغر سجين سياسي

وعن نشاطه السياسي نوّه آل مسافر إلى أن الشاعر الراحل دخل السجن بسبب انتمائه اليساري وكان حينها أصغر سجين سياسي، والتقى هناك بالشاعر الكبير مظفر النواب وتأثر به، وأسهمت معاناة السجن في تفجير طاقته الشعرية.
أما الكاتب الملاح فقد عدّ عريان السيد خلف من أبرز الشخصيات اليسارية المثقفة في العراق، فقد دافع في شعره عن رموز الشيوعية وكانت قصيدته في الرثاء المغلف بالعتاب لـ”عبد الكريم قاسم” أحد أبرز قصائد عريان حيث قال في مطلعها:

منك.. كلهه منك.. طب حراميها

ولعب بيها وخبطها.. وشرب صافيها

كَلنالك تحذّر ناوراك الذيب

تاعيت الضواري.. وأمنت بيها

ويؤكد الملاح أن عريان السيد خلف وثّق الواقع العراقي بشكل مميز وكان صوتا قويا للمعارضة السياسية داخل العراق. الكاتب أحمد الملاح رأى أن عريان السيد خلف وثّق الواقع العراقي بشكل مميز وفي الإطار ذاته، يفيد الشاعر الحلبوسي بأن السياسة لها حصة كبيرة من شعر السيد خلف، ومن قصائده السياسية قصيدة القيامة، وله قصائد أخرى في هذا الجانب منها قصيدة نذر، وقصيدة الشاهد، وحصل على شهادات وأوسمه عربية كثيرة.

رحيل مؤثر

حزن كبير عمّ العراق على وفاة السيد خلف، حتى إنه أقيم له ٢٠٠ مجلس عزاء في العراق وخارجه واستمر ذلك شهورا عدة، بالإضافة إلى المجالس التي أقيمت في البيوت، وأكثر منها في القلوب”، كما يقول آل مسافر. وعن ملابسات وفاته، يقول الشاعر غيلان إن السيد خلف تعرض لحادث سير قبل أشهر من وفاته، وعولج وكان الحادث صعبا جدا. ويضيف “لكن فيما بعد استمرت تداعيات الحادث التي أثرت بشكل خطر على جهازه التنفسي، وأعاقت حياته إلى حين رحيله”.

عرض مقالات: