من رحم قرية معطرة بالبخور والصندل، من قلعة سكر و(سويج شجر)، خرجت قامة شعرية وموهبة عراقية، خطفت الحواس وفتنت الأفئدة وألهبت المشاعر. من ضفاف نهر الغراف ومائه العذب، ظهرت قصيدة مكتوبة على (وركَات دفتر البافرة)، وكانت مفعمة بالحياة بكل ما فيها من أمل، وحبّ، ومتعة. من بيوت الكَصب و(الطين الحريّ)، اعتلا عريان السيد خلف صهوةَ حصانٍ اسود، وخرج كفجرٍ عظيم، شاقا الظلام نحو رحاب الشعر.
حمل الشاعر الراحل مصباح (ديوجين) باحثا عن الحقيقة، عن النور، عن الانسان، فحطّت كلماتهُ فوق أسطح المنازل، وغنّت مع النواعير والنواطير، وذرفت الدموع فوق ما خلّفت الحروبُ من هياكل، وسمت بالعاشقين الى البهاء والجمال، وعانقت جروح المشردين والغرباء.
القصيدة عند عريان، عبارة عن لحظات مسروقة من زمن متأجج بحمى الأنين والانكسارات، انها تنبع من اقفاص الليل المقفلة، ومن اغوار الوجود وطقوس البوح الممنوعة. هي الشجن العراقي، الذي عجن طينة الانسان في بلاد الرافدين، منذ ان اختلط عرق الآلهة بدم التاريخ، ومنذ ان صرخت عشتار حزنا على تموز: ويلاه.. ويلاه.....، لكنّ عريان يجيد السياحة في العالم المظلم، فتظهر القصيدة مضاءة بنور الحياة، متألقة بصور العشق، ومكتنزة بالجمال السومري.
تجربتهُ السياسية، جعلت عينهُ مشدودة نحو افق الشمس، فيتغذى خيالهُ الأدبي، لتصبح كلماته ملاذا للذين اتعبهم الطريق، ونفيرا يبثُّ العزيمة لدى الثوريين والشيوعيين. لكن، وبالرغم من مسيرته السياسية الطويلة، ليس من الانصاف ان نضع ابداع الشاعر تحت يافطة السياسة فقط، فهو في نهاية الامر، شاعرٌ انساني، قصائده جواز سفره الى القلوب.
استطاع عريان ان يمزج بين المشاعر الفردية الخاصة والانتماء الى التراب والانهار، والى تلك البيئة الجنوبية المحتشدة بالصور والمراسيم، فتحولت كلماته الى ارث يضاف الى ارث العراق الشعبي المتجذر والذي يُعد أحد دعائم ثقافتنا الوطنية.
سيبقى عريان السيد خلف بيننا، وستبقى كلماته عذبة كعذوبة صوته في الالقاء، وحارة كحرارة الارض في صدره، وسنبقى نردد (ردي.. ردي، ردي لا تهيجين الجروح، اجروحي من تلجم تدي)، سنبقى نغني (تلولحي.. بكَلبي قصيدة تلولحي)، سنبقى نتذكر مواويل رياض احمد وفؤاد سالم وقحطان العطار وصباح السهل (وبلايا وداع.. مثل العود من يذبل.. بلا يا وداع).
لقد كتب الشاعر بأحاسيس عميقة، وبأحشاء نازفة، فكانت كلماته مخلصة لوجدان الانسان ومعبرة عن هواجسه، وتوقظ في دواخل من يسمعها فيضا من العواطف والافكار، لذا، فهو وإن ذهب الى سريره الأبدي، فأنّ الحياة، تبقى تنبضُ في شرايين قصائده.