منذ أحداث تشيلي الدامية عام 1973 عاشت ايزابيل الليندي منفية في فنزويلا أولا ثم في سان فرانسيسكو في كاليفورنيا، على مبعدة عشرين دقيقة من جسر الغولدن غيت الرشيق، بأبراجه الحمراء الشامخة، حيث الماء والسماء والهضاب والغابة، هي منظر هذه الروائية الطبيعي في كل يوم، خصوصا حينما تكون عاطلة عن الكتابة في النصف الثاني من كل عام.
لكن حياة هذه الروائية المبدعة لا تفتقر الى الدراما، لديها في هذه العطالة فائض من مواد السيرك للكتابة عنها، إذ ما أن يحل الثامن من كانون الثاني من مطلع العام الجديد، حتى تستيقظ مع أول انوار الصباح فتستحم تحت الدوش وترتدي ملابسها بينما يمضي ويللي زوجها الثاني نحو المطبخ لاعداد الفطور وطحن البن، وهي عادة روتينية شبه سنوية تجمع بين الاثنين اكثر من تهيجات العاطفة. وتكون جلسة الفطور هذه هي اكثر ما يفتقدان عندما يصبح احداهما بعيدا عن الآخر، إذ يحتاج كل واحد منهما الى الاحساس بالآخر في هذا الحيز غير الملموس الذي هو لهما وحدهما: فجر بارد، قهوة مع خبز محمص، وقت للكتابة، ولا يمكن للحياة ان تكون افضل من ذلك.
وبعد ان يعانقها ويللي معانقة وداع، لأنها ذاهبة في رحلة طويلة "حظا طيبا". يهمس لها، مثلما يفعل كل سنة في مثل هذا اليوم. تمضي بمعطف ومظلة تنزل ست درجات تمر بمحاذاة المسبح تجتاز سبعة عشر متراً من الحديقة، وتصل الى الكوخ المنعزل حيث تكتب. وما ان تشعل النور حتى يأتيها صوت كارمن بالثيس عبر الهاتف وكيلتها الادبية من سانتافي سيغارا قرية الماعز المجنونة القريبة من برشلونة:
- اكتبي مذكراتك يا ايزابيل.
- لقد كتبتها الا تتذكرين؟
- تلك كانت منذ ثلاثة عشرة سنة.
- اسرتي لا تحب ان ترى نفسها، معرضة امام الملأ يا كارمن.
- لا تهتمي بشيء. ارسلي لي رسالة من مئتين او ثلاثمائة صفحة وانا سأتولى ما سوى ذلك. واذا كان لا بد من الاختيار بين كتابة قصة او اغضاب الاقارب، فان اي كاتب محترف سيختار الخيار الاول.
- أأنت متأكدة؟
- متأكدة تماماً.
وهكذا سعت ايزابيل الليندي في مطلع عام 2006 ان يكون كتابها لهذا العام عبارة عن مذكرات اخرى لها، يمثل جردة حساب للأيام والسنوات التي توالت بعد وفاة ابنتها الكبرى "باولا" عام 1992، بعد اصابتها بمرض عضال "البورفيريا" وهي لم تكمل عاما واحدة من زواجها بشاب اسباني في مدريد. والملاحظ ان بنية هذه المذكرات تنهض بقسمين وفصول متعددة ذات عناوين مختلفة، هي اشبه بقصص قصيرة تبدأ بضمير المخاطب الخاص بـ "باولا" ضمن محور عمودي "ايقاعي" في السرد، يتجاوب مع مسار افقي "لحني" يشتمل على الضميرين الآخرين "المتكلم والغائب" حول نشاط الوعي والارادة في الكلام وفي الكتابة وهو في تقديري اسلوب جديد ومبتكر، كما لو ان خطاب المذكرات قد ضاق بما يسميه بعضهم نرجسية المؤلف.
وتأتي "حصيلة الايام" لهذه الكاتبة التشيلية المعروفة بعد رسوخ تجربتها الاعلامية والقصصية والراوئية في العالم اثر حياة المنافي في فنزويلا (1973- 1987) اولا، ثم في الولايات المتحدة الامريكية لتنتج اعمالا روائية متقدمة في ما يعرف بأدب الواقعية السحرية الذي يعد هوية كتاب امريكا اللاتينية ولسان حالها، منها:"بيت الارواح، باولا، الخطة اللانهائية، ابنة الحظ، افروديت، صورة عتيقة، انيس حبيبة روحي/ ..". فضلا عن ذلك فان شهرتها قد تزايدت ونمت بفعل ثلاثة عوامل اخرى بعيدة عن شواغلها الدعائية:
• اولا، انتسابها الى العم الرئيس الديمقراطي التشيلي المغدور سلفادور الليندي الذي اطاح الجنرال الدموي بينوشيت بنظام حكمه عام 1973. وفي هذا الصدد تذكر ايزابيل انها تلقت رسالة شخصين تشيليين في السويد حال سقوط هذا الجنرال في الاستفتاء الشعبي عام 1989 يطلبان منها تذكرة سفر للعودة الى تشيلي لانهما اضطرا بجريرة العم الليندي ان يخرجا الى المنفى.
• ثانياً، أفلمة روايتها الاولى "بيت الارواح" سينمائياً في تسعينات القرن الماضي بقائمة مهيبة من النجوم امثال: ميريل ستريب، فانسيا ردغريف، جيرمي ايرون، غلين كلوز، فينونا ريدر، وممثلها المفضل انطونيو بانديراس. وتقول ايزابيل: " لم يجر العرض الاول للفيلم في هوليوود لان المنتجين ألمان، وعرض في ميونيخ، حيث واجهنا قصفا هائلا من الكاميرات والفلاشات وكان الحشد ينتظر مرور احد اولئك النجوم المشاهير ليطلبوا منه التوقيع على اوتوغرافاتهم، لكن هؤلاء كانوا يدخلون من احد ابواب الخدمة. ولا يجد المتعصبون مفرا من الاكتفاء بتوقيعي. "من هذه"؟ سمعت احدهم يسأل بالانكليزية وهو يشير إليّ، فأجابه آخر:"الا ترى انها ميريل ستريب"!
• ثالثاً، ما حصل لها في عام 2006، حينما حملت الراية الاولمبية في دورة الالعاب الشتوية في ايطاليا مع سبع مرشحات اخريات، اخترن بصرامة وتقص جيد لسير حياتهن وافكارهن وعملهن، ثلاث رياضيات حصلن على ميداليات ذهبية وخمس ممثلات للقارات الخمس، منهن الفنانتان صوفيا لورين وسوزانا ساراندون اضافة الى ناشطتين انغاري ماثاي حاملة جائزة نوبل للسلام من كينيا وسومالي مان التي تناضل ضد تجارة جنس الاطفال في كمبوديا. وفي هذا الشأن تذكر ايزابيل: كانت اربع دقائق فقط في حمل الرايات داخل الستاد العظيم لكنها اوصلتني الى الشهرة، اذ صار الناس يتعرفون عليّ في الشارع وصار احفادي يتباهون بأني جدتهم.
ولعل من نكد هذه الشهرة على ايزابيل الليندي في نشاطها المهني المطلوب انها لم يتح لها الوقت احيانا لاستبدال الثوب الذي تستخدمه خلال اسبوع من رحلاتها حول العالم. وتذكر واحدة من هذه الرحلات حينما جالت على خمس عشرة مدينة خلال واحد وعشرين يوما، حاملة حقيبة يد تحتوي الضروريات التي لا غنى عنها، وهي من خلال خبرتها اشياء قليلة جداً. كانت تركب الطائرة في اول ساعات الصباح وتصل الى المدينة الوجهة، حيث تنتظرها مرافقة لا تقل انهاكاً عنها، كي تأخذها الى المواعيد المرتبة مع الصحافة. تأكل سندوتشاً عند الظهر ثم تجري مقابلتين اخريين، وتذهب بعد ذلك الى الفندق لتستحم قبل حفل تقديم الكتاب ليلاً، حيث تواجه الجمهور بقدمين متورمتين وابتسامة اجبارية، كي تقرأ بضع صفحات من روايتها بالانكليزية. وتقول: رحلات الترويج تلك قادرة على طحن عظام اقوى الاقوياء. كنت اتحلل من جسدي كما في رحلة بين الكواكب وانجز مراحل الجولة بثقل صخرة على صدري واثقة بان مرافقاتي سيقتدنني من يدي خلال النهار، وسيحرسنني اثناء القراءة الليلية، ويوصلني الى المطار عند فجر اليوم التالي.
وضمن مناجان ايزابيل لابنتها الراحلة لتعرف على حياتها الزوجية عن كثب، حينما تقول: لقد عشنا انا وابوك معا تسعا وعشرين سنة ".."، وعندما قررنا الطلاق، لم يكن يدور في خلدي بأي حال سألتقي بويللي عام 1987 بعد ثلاثة شهور. لقد جمعنا الادب كان ويللي قد قرأ روايتي الثانية وراوده التعرف اليّ عندما مررت مثل نيزك عبر شمالي كاليفورنيا، فكان عليّ ان اتصرف بسرعة، لأني كنت اقفز من مدينة الى اخرى في مرحلة مجنونة. اتصلت بك لأطلب نصيحتك وقلت لي وانت تضحكين مقهقهة: لماذ السؤال اذا كنت قد اتخذت القرار بإلقاء رأسي في المغامرة. اخبرت نيكو "شقيق باولا" بالامر، فهتف مرعوباً: وانت في هذا السنة يا اماه! "كنت في الخامسة والاربعين وهي سن بدت له انها عتبة القبر".
اما الطرفة والغرابة في الزيجة الثانية لايزابيل فهي عقد قران الاثنين بواسطة "سيد" حصل على اجازته بالمراسلة لقاء خمس وعشرين دولارا، لان ويللي بالرغم من كونه محامياً، لم يتوصل الى جعل صديق قاض ان يزوجهما. فهل كانت هذه الزيجة ذات طابع نفعي للطرفين؟ ربما، لأن ايزابيل كانت تسعى للحصول على الاقامة الدائمة في الولايات المتحدة بعد منفاها الاول في فنزويلا المضطربة سياسيا واجتماعياً كما سنرى، ولأن ويللي ايضا طليق زوجتين سابقتين انجب من الاولى شابين منفلتين لا قدرة له على ترويضهما وليس بمستطاعهما العيش في كنفه. وابتلى من الثانية بفتاة متشردة تدعى جينيفر تفرد لها الكاتبة العديد من صفحات مذكراتها، حول ادمانها للمخدرات ومعاشرتها للأفاقين وتنقلاتها الدائمة بين السجون والمشافي مع مصارعة ثور الموت بين حين وآخر.
وتعلل ايزابيل فشل ويللي في حياته الزوجية السابقة بانه نتاج عقد الستينات المضطرب في امريكا، عندما تحللت العادات والقيم والتقاليد لاسباب شتى، اذ شاعت موضة الحب الحر والتسلية في تبادل الازواج، وكان الحضور في الحفلات يستحمون عراة معاً الجاكوزي المنزلي، وكان الجميع يشربون المارتيني ويدخنون الماريجوانا، بينما الاطفال يمضون طليقين في كل الانحاء. تلك التجارب خلقت تناثراً من الزيجات المنفرطة، مثلما هو متوقع.
حصيلة ايام هذه المذكرات يقظة حقاً، توظفها ايزابيل الليندي في كتابة سردية ممتعة، يتغلغل في ثناياها النقد العميق والتاريخ الاجتماعي للأشخاص والاحداث الادبية والسياسية، وتلك الحرية في تناول الموضوعات المختلفة اضفت حيوية على الكتابة وتنوعا وغنى، مما جعل السفر مع ايزابيل سفرا ممتعاً، يمكن لأي قارئ ان يقوم به، فلا يخرج من القراءة الا وقد ازداد افقه اتساعا واضيف الى معارفه الكثير.
لقد اتهمت من الفنزوليين حينما اقدم ابنها نيكو على خطبة سيليا الفنزولية بانها امرأة مطلقة، ملحدة، شيوعية، ومؤلفة كتب تحظرها الكنيسة وهذا ما كان ينقصها في منفاها الاول على حد تعبيرها. ووقفت عام 1994 حول الابادة الجماعية للبشر في رواندا، وكانت من المحتجين على الحرب ضد العراق قبل ان تدق طبول الحرب في عام 2003، بل انها ادانت سياسة جورج بوش بعد الاحتلال، ونددت بسجون الامريكان في "ابو غريب" وغوانتانامو معاً. وقبل ذلك كانت اول من تصدت لانصار بينوشيت ممن لا يخجلون من الاعراب عن تقديرهم له، وفضحت سرقات هذا الجنرال وتهربه من الضرائب وفساده. ولم تتوان خلال السنوات من هزيمة الديكتاتور في الاستفتاء العام عن نقد اليمين الذي يتحكم بمجلس الشيوخ، والدستور الذي وضعه بينوشيت والحصانة التي يتمتع بها باعتباره عضوا مدى الحياة في المجلس المذكور.
وهكذا تحققت نبوءة ايزابيل في اسقاط الدكتاتورية عام 1998 حينما جرى اعتقاله في لندن، وكان قد ذهب اليها ليتقاضى عمولات بيع اسلحة واجراء فحص طبي عام، وتناول شاي الساعة الخامسة مع صديقته رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت تاتشر. وحينما ظهر في صحف العالم متهما باقتراف جرائم ضد الانسانية، عندئذ تهاوت العمارة القانونية التي شيدها لنفسه، وتجرأ التشيليون اخيرا على الخروج الى الشارع للسخرية منه. وفي هذا الشأن تقول: في فترة عملي الصحفي تعلمت انه ليس هناك ما يبهجنا نحن التشيليين اكثر من السخرية من انفسنا، مع اننا لا نحتمل أبدا ان يفعل أجنبي ذلك.
لقد توسعت هذه المذكرات في مناجاتها للفقيدة باولا في كتاب يربو حجمه على 350 صفحة من القطع المتوسط، بقراءة واضاءة شخصيات العائلة والاقرباء والمعارف من الناس والساسة والمبدعين، ضمن مناخ رائق وإلمام بالتفاصيل وببعض الخفايا. ولكن الشيء الاساس هو عائلة ايزابيل الليندي التي تحولت الى مشهد عام وحددت ايقاع الكتاب.