1

ليلة داجية من تشرين، طاف المتظاهرون خلالها حول إطارات السيارات المحترقة، في مركز البصرة، صاخبين ملثّمين، نصفَ عراة. أوقِف اللقطةَ حتى صباح اليوم التالي، مع عشرات من لقطات الليلة الماضية. أعود في الصباح فأحرّك المشهد: الدخان ينعقد راياتٍ ملولَبة فوق البنايات الواطئة والجسور الداخلية؛ رائحةُ احتراق تملأ الهواء.

مئة خطوةٍ تُحسَب بمئة شظيةٍ تدخل الرأس. مفكرةُ الهاتف النقّال تمتلئ بالملاحظات المتتابعة وتفيض عن حدّها على الحفظ، تقابلها ذاكرة تستعيد الصور وترتب الشظايا الملتقَطة على جانبي الشوارع الداخنة. قائمتان متقابلتان تجهّزان النصَّ الملولَب، رماديّ السحنة، بآلية التوازي والتقاطع. تتحرك الأقدام وتتصل الأفكار بتيار جامح، هو عزم الحركة في مربّع العشار الدافق نفسه.

القائمة على اليسار تتدرج بأحداث الأيام التشرينية العاصفة، توازيها قائمة بمحفوظات الأمس المرتّبة على مدى العقود الماضية. لا يقتضي سردُ العاصفة سوى الوصل بين السواكن والمتحركات كي تعمل ذاكرةُ النصّ آلياً وتقترب شواهدُ اليمين من كوامن اليسار، في القائمتين المتوازيتين. حركة لولبية متصلة على محور التجاور والتبادل.

أبدأ بسحب شظيةٍ من قائمة الملاحظات اليمنى (تمثال العامل ذي المطرقة أمام مئذنة الجامع بجانبه) فتتداعى القائمةُ الموازية بإجراء التقاطع المطلوب وتركّب المشهدَ المتحرّك (النحّات عبد الرضا بتّور يخطف بدراجته القديمة، المركونة بجانب المقبرة، على خلفية المشهد الملبّد بسحب الدخان). تعوزني الرائحةُ والكلام المخزونان لهذه اللقطة، فتنجدني اللقاءاتُ السريعة على ضفة نهرٍ ضحل، كان النحّات يرتاده ويخوض في طحالبه بحثاً عن الديدان لحوض أسماكه البيتي.

  أنتقل الى مفردة أخرى في قائمة اليمين (طحالب) فيتحرّك النهر الأخضر في قائمة الشمال، ويجهّزني بوقتٍ للسباحة في ظهائر الصيف القائظة (صبية عراة يتقاذفون أجسامَهم النحيلة من قمة جذع نخلة شديد الميلان على الضفة المطيَّنة). أما مفردة (شصّ) فستجتذب مزيداً من الأسماك المشكوكة في خُوصة اصطادها صبيانُ النهر قبل سباحتهم فيه (أدخلتُ لقطتها في قصة: إله المستنقعات، قبل أربعين عاماً). التفرّس في صفحة نهرٍ أخضر يبعث لي بسهمٍ يخترق الروح ويشطرها كقبلةٍ سامّة.

ومن وراء حجب القائمتين المتوازيتين، يسقط شِهاب من مدار كبسولة رائد الفضاء السوفييتي يوري غاغارين، فيكشف نورُه عن أوّل نصّ سرديّ كتبتُه على حافة مسفن “الدوك يارد” في العشار، أمام هيكل سفينةٍ جانحة. آنذاك أهديتُ قصّتي القصيرة الى عمّال المسفن، واليوم أعلّق صورة السفينة المجهَّزة للتصليح على جدار غرفة الاستقبال؛ أما الوجوه العمّالية المكدودة فسأستدعيها من قائمة التجهيزات التي جمعتها الليلة البارحة، كي تطوف حول مركز التمثال.

أبتعد عن الأفق الداخن بحرائق الليلة الماضية، وأحصي مدّخراتي من الألفاظ المجهّزة (نعال، قبعة، لثام، لافتة كارتون، مصيدة مطاط، قنينة ماء خالية، سفرطاس ألمنيوم، ملاعق، أقداح ورقية، قطرات دماء، ضماد متسخ، شريحة هاتف، قلم حبر جاف، علبة سجاير..). أتوغّل في المربّع الحيّ، يستردّ أحياءه المأخوذين بتيار الصخب والغضب والتوجّس، يرتّبهم في أماكن أعمالهم المعتادة؛ كلاً في حانوته وكلاً وراء عربته أو بسطته في أركان السوق؛ ثم أنيخُ بقائمتيّ على تخت مقهى في ركن العطارين، أحتسي قدحَ شاي معطَّر.

العطّار المتدرِّب في القائمة اليمنى، إزاء العطّار المتمرّس في روائحه وتأملاته البعيدة في القائمة اليسرى؛ توازياتُ الحاضر إزاء تقاطعات الماضي في وعي العشاريّ المتجول؛ أخوةُ “الكاووس” وأخوة “الناموس” يشقّان الممرَّ الهادئ ويدخلان اللقطةَ الأخيرة يداً بيد، وخطوة بخطوة.

2

أنقل اللقطة، بعيداً نحو عاصمة البلاد بغداد المؤرَّقة، وأواصل تدوين مفردات القائمة، استيحاءً من تظاهرات العام 2019، التي اندلعت في الخامس والعشرين من تشرين الثاني، واستمرت حتى شهور العام الذي تلاه، وأتوقف عند “متراس” جسر “الأحرار” الكونكريتي ومناوشات الليل حوله. يتزحزح متراسُ قوة الحماية البوليسية أمتاراً ثم يقام متراس غيره، فتهاجمه أشباح الليل وتزيحه بالمطارق. أضيف إلى أسماء “الكومونة” القديمة اسماً جديداً أستوحيه من كتاب حنّة أرندت “في الثورة”. الكومونة الجديدة تحتاج إلى تأسيس جديد أو بلغة أرندت: “العنف لا يكفي لوصف ظاهرة الثورة، وإنما التغيير هو الوصف الأجدر بها، ولا يمكننا الحديث عن الثورة إلا حين يحدث التغيير ويكون بمعنى بداية جديدة، وحين يُستخدم العنف لتكوين شكل مختلف للحكومة لتأليف كيان سياسي جديد، وحين يهدف التحرر من الاضطهاد إلى تكوين الحرية”.

الحرية مطلب على القائمة مقابل ضرورة التغيير، وأستمدُّ المفهوم الأخير، هذه المرة، من تجارب عالمية قاربت الثورةَ بمعناها الجديد، وأضعُ سقوط جدار برلين 1989 في ألمانيا مقابل محاولات ثوار تشرين إسقاط متراس الجسر. فالحرية وليدة العنف، والتغيير وليد الزحزحة الكبرى للجدران والمتاريس السلطوية. وذاك ما صوّرته عشراتُ اللوحات الجدارية على مداخل الجسر ونفق “ساحة التحرير”. لكنني هنا، وبإيحاء من فكرة “التغيير” وروح التصوير على الجدران، سأعود إلى جدار في البصرة سُمّي ب “الجدار الوردي” وأكمل به توازيات ثورة تشرين، وتقاطعات التجارب العالمية.

بمحاذاة شارع المركبات العام، الواصل بين جنوب البصرة وشمالها، يمتد جدارٌ طويل، ملطّخ بالتجريباتالجرافيتية المضطربة. الضميرُ المكبوت يلطّخ الأبصارَ بملاحظات شتى من ثوراننا السياسي الراهن. هياج فضائحيّ مدوَّر من أزمة عامة إلى ثوران داخليّ محموم. 

تفصيلةٌ من جدار الجرافيتيات الصبيانيّة الساخطة، تركّب تخطيطاً لشعارات سياسية ناضجة على خلفية إحساسٍ جماعيّ، هيجانِ روحٍ بلا مأوى ولا هدف. شعارات الأمس النزقة، تختلط بعبارات خليعة سافرة، ورومانسيات ثوروية غاربة. الجدار الذي عُدِيَ بشعارات الوقت السياسي المجدِب، ينقل عدواه للأبصار العابرة خطفاً او مهلاً، مازجاً المسموحَ بالممنوع، النظامَ بالفوضى، الكهولةَ بالشباب، المتراسَ البوليسي بالجدار الحرّ.

خرجتُ على عادتي كي التصق عن قرب بالجدار الجرافيتي المخبول- وكنتُ ألمحه عن بُعد في ماضي الأيام- أتحسّسُ خبَلَ الصبيان المعبِّر عن هياجٍ مستتِر يوشك أن يطيح بالأمتار القليلة الباقية من العقل الاجتماعي والسياسي لمجتمع الجذامير المعمّرة قروناً. تنتشر الأشكال المتعانقة مع حروف الهوية الملتوية على سرّها الدفين. أسيرُ على منهج محلّلي الرُقيمات الطينية فأستدلّ على هويتي المنقّبة بين مئات المنقبين الباحثين عن حلّ لشفرات الجدار. الجدار يحيط بتاريخ مُخلخلٍ من أساسهِ.

لكن صراعاً دهرياً يتدخل دائماً في عرقلة التنقيب الدورية، فهناك من يصبغ الجدارَ بلون وردي ويهيئه لإعلانات جديدة، وشعارات واعدة، عاقلة حتى حين، مجنونة في كلّ الأحيان. لكن الصبّاغين (صبّاغي المتاريس) أشخاص لا يعرفهم أحد أيضاً ولا تراهم عين. وظيفتهم الوحيدة: مراوغة الوعي الطافح بالسخط والعصيان. ومقابل قمع المتراس تستمر حياةُ الجدار ورسومُه، وتجتذب اللعبةُ أجيالاً من العابثين والمتمردين، يجرّبون ردودَ الفعل المنقّبة في خطوط الجدار الكونكريتي.

أولئك الصبيان الغاضبون يحوّلون الرسومَ الجامدة الى حياة متحرّكة، يشحنونها بالغضب نفسه، والسخط الذي لا يعرف حدوداً. صبيان الأمس (بما يكفي من الرسوم) يتظاهرون إزاء الحائط (بما يكفي من النضج الثوري الذي يعني التغيير). الحائطُ الورديّ يتكلم لغة أخرى، يحمي ظهورَ أولاده الأشقياء (بلغة كوكتو أو محمود درويش).

الحائط لا يتزحزح عن مكانه، التاريخ يعيد رسومه، لكنّ الرسومَ تتحرك الى أمام. أمّا حين يتوقف كلُّ شيء عن الحركة فالجدارُ سيتحرك، يستنهض ذاكرته المضطهدة برسوم جديدة؛ يستعيد شخصاً (بلا اسم) يحمل سطلَ الطلاء كي يرسم ما تتوق إليه نفس رجل كهلٍ ألقته الجموع المتظاهرة إلى حافة الجدار.

أقِفُ أمام هذا الرسم (الكهل بصحبة عائلته من الأرانب) وأهتف متعجباً: “يا للوقت! كم يعدو كالأرانب!”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* قاص وروائي عراقي معروف

عرض مقالات: