يكمن خطاب المثقف في المجتمع من أنه يمزج بين القول والعمل، في حين يختص  خطاب  السلطة السياسية بمن يحكم، إن ميدان سلطة المثقف مختصة بتوجيه الخطاب المعرفي، وإدارة أليه البنى الإجتماعية ومؤسساتها، والكشف عن الحقيقة. ومن ثم رسم الحدود العامة لهوية الدولة. وفي المجتمعات المتقدمة نجد الخطابين: خطاب السلطة وخطاب المثقف، ضمن مدار خدمة الإنسان والصالح العام، والدفاع عما به يكون الإنسان إنسانا، ولكن المتأمل  لما يحدث في مجتمعنا، يجد أن ميدان السلطة محدد بيوم انتخابي، ومن ثم يتغير بعد ذلك إلى تكريس ثقافة السلطة وأيديولوجيتها، في حين أن خطاب المثقف ليس مرحليًا ولا يخضع لانتخابات او توجهات آنية، ولذلك بقي خطاب الثقافة قويا وقائما منذ بدء البشرية وإلى اليوم.

 الفاصل الموضوعي بين خطاب رجل السلطة وخطاب رجل الثقافة، ليس نوعية شعارات الخطاب الذي يوجهه كل منهما، ومن ثم يعمل في ضوئه، إنما هو في نوعية الخطاب، اي في الآلية التي تديم هذا الخطاب وتوسع من تأثيره، وتخضعه إلى تجديد ومراجعة، فخطاب المثقف ليس آنيا، عندما ينادي بسلطة مجتمع مدني مثلا، وبحضور الكفاءات في السلطة، وبتوزيع عادل للثروة، وباحترام حقوق الإنسان، وبتثقيف الناس بالتقنيات الحديثة وببناء مجتمع الحداثة والتطور، إنما هو خطاب شامل لا يخضع لمرحلة دون أخرى، ولا يتوجه إلى اتجاه سياسي محدد، ولذلك عندما يأخذ المثقف دوره وابداء الرأي في القضايا التي تتحكم بمصير البلاد، على السياسي أن يفهم أن خطاب الثقافة أكثر فاعلية – على المدى البعيد والقصير- من خطابه الآني المحدد بالانتخابات ، أو بتسويق أيدولوجية ما. فمهمة المثقف تنوير المجتمع، خطاب الثقافة خطاب غير موارب، ولا هو آني، ولا يتستر على الحقيقة من أن العراق مثلا ومنذ خمس عشرة سنة لم يتقدم خطوة واحدة باتجاه صياغة رؤية لدولة مدنية، بل كل ما حصل العراقيون عليه، هو ظهور مؤسسات تعيق التقدم، وتمنع التطور، وتشد الإنسان العراقي إلى التراجع والتخلف، فالسياسي لا يعمل على مفهوم التنوير إلا بما يخصه ويدعي به. لقد سلحت الخرافة واعتمدت طريقة في بنية المؤسسات الحكومية. فما يقوله المثقف في خطابه الوطني بهذا الصدد لا يستمد شرعيته من كونه  يطرح قضايا تمس حياة الناس فقط، بل يطرح خطابه بما يجعل البلاد بامكانياتها المادية والبشرية مشروعًا يجب التثقيف به ، ومكافحة اية خرافة او تصور تعيق تقدمه.

لا تشمل  خطابات الثقافة في العراق، تلك الابعاد التي قامت عليها خطابات المثقفين في المجتمعات الأوربية، وهم يناقشون علاقة المحلي بالكوني مثلا، مهمة خطاب الثقافة العراقية هو تلمس الحاجة إلى التغيير، ولايتم التغيير بالأدوات القديمة، بل بتجديد الأداة وتنوع مصادرها، ومواكبتها للتطور، فإذا تصورنا المجتمع العراقي أرضا زراعية، لايمكن الإبقاء على “المسحاة” أداة فردية وحيدة للزراعة، وبالتالي وضع خطط  تنموية لإنتاج الطعام لثلاثين مليونًا، لذا يكون من الواجب تغيير “المسحاة” إلى “مسحاة آلية جماعية” ويقف خلفها كادر متخصص بالأرض والزراعة والتنمية، فمهمة الأداة الجماعية وجعلها اداة آلية يقودها فلاحون ذوو خبرة في الزراعة، ستكون  مترافقة مع منشئات ومناهج تعليم متطورة،  وتقنية علمية للتصنيع، وادارة كفوءة للخبرات، هنا يكمن فحوى وجدوى خطاب المثقف في مرحلة مفصلية كالانتخابات، من أن الذي سيأتي نائبا أو مسؤولا ،عليه أن يفكر: ان الأداة الفردية لا تصلح لمجتمع التنمية والحداثة، وأن أمال الناس لا تتحقق بالصلوات والحمد فقط، بل بالعمل المرافق ، وبالتحول الثقافي إلى التصور العملي العقلي.

ان خطاب الثقافة حاليًا يؤكد: إن مبدأ الاقتراع العام الذي هو حق من حقوق المواطن ،مهما كانت طبقته أو دينه او قوميته، بأنه سيد مصيره، وبأن نظام أي حكم قائم أو سيقوم، إنَّما هو نتاج لإرادته الحرة في علاقتها بارداة مواطنيه، وهذا ما يجعل كل مواطن يتماهى بالدولة، ويخضع لإرادتها طوعًا، اعتقادا منه أنها منه وإليه.

عرض مقالات: