مرت الذكرى الأولى لرحيل الشاعر والكاتب والأمين العام لإتحاد الأدباء والكتاب العراقي ووجدت أفضل استذكار له هو دراسة منجزه وارتأيت أن أبدأ بإجراء جرد كامل لتلك المقالات فوجدت ما وقع في يدي أزيد من أربعين مقالا، قرأتها جميعا ووجدتها تستحق الدراسة لابتعادها عن التعريف السائد أو القديم للمقالة، الذي يقتضي بأن تكون عفوية وسريعة وخيالية فقد كانت مقالاته رصينة مرصعة بالواقع والموقف والمعرفة والفكرة والربط العضوي بين المعلومات المحلية والتاريخية بشكل مفتوح فوجدتها تضم في مضامينها، تجارب تاريخية، إسلامية، عربية وعالمية، مما جعلها أكثرة رصانة وقوة وتأثيرا.
ووظف في مقالاته الشعر الشعبي والفصيح، الحكمة، والنكتة، المسلسل التلفزيوني مثل (حريم السلطان)في مقاله (عيد “الحريم” العالمي).
بعض مقالاته تقترب من القصة القصيرة من حيث الموضوع والبنية السردية فنجد فيها مقدمة وعقدة وخاتمة مفتوحة أو مغلقة، حوار وشخصيات مثال على مقاله (الأرض كروية).
اخترع شخصية أسماها (بهلول) ووظفها في أربع مقالات يتحاور معها ويستمع إلى آرائها وخلال هذه التقنية كان يقنع المتلقي بآرائه وقد رأيت ذلك جليا في مقالته (وزراء... حكماء) عندما قدم الوزراء استقالاتهم قال بهلول: إن هؤلاء الوزراء لا يعملون شيئا إلا بموافقة كتلهم ولكي يوضح الفكرة يأتي بقصة على لسان مزارع يرويها بهلول: أراد المزارع أن يربط حماره فطلب حبلا من جاره، فاعتذر الجار لعدم امتلاكه لمثل هذا الحبل ولكن قال له: أعطيك نصيحة : هي أن تقوم بنفس الحركات وكأنك تربطه بحبل وسوف لن يبرح مكانه وفعلا وجده في اليوم الثاني بمكانه، لكنه رفض أن يتحرج رغم أن المزارع استنفد كل قوته في سحبه إلا أنه لم يتحرك. ذهب إلى جاره سائلا: فقال له الجار هل تظاهرت بأنك تفك الحبل من رقبته؟ فقال: كلا، فقال اذهب وافعلها، وفعلا تحرك الحمار بسهولة. بهذه الضربة وينهي مقالته والمغزى واضح.
وانمازت مقالات إبراهيم الخياط بلغة فصيحة وسليمة عندما يستخدم الفصيح ولكنني وجدته يستخدم العامية في كثير منها بل حتى عناوينها مثال على ذلك: (الدنيا خوش دنيا)، (كرت عينك سيدي). وأعتقد أن استخدامه للعامية كانت مبادرة جيدة أفادت نصوص مقالاته كثيرا وقربتها من الواقع.
وتميز الكاتب إبراهيم بنهايات مقالاته وتكاد أن تكون علامات فارقة في المقالة العراقية، وعلى سبيل المثال سوف أركز على بعض من هذه النهايات:
في مقالة (وعد بلفور) يتناول هذه الشخصية التي سببت كارثة في منطقة الشرق الأوسط بوعده المشؤوم وعن زيارته إلى فلسطين عام 1925وكيف استقبل بمظاهرات رافضة عارمة في مصر والإسكندرية والقاهرة وفلسطين ولم تحتفي به سوى تل أبيب وسمي شارع باسمه ويربط بين هذه القصة وما يجري بالشارع العراقي وكأن بلفور يحضر شاخصا في الساحة العراقية مع الإعلان بتخصيص ثلاثة مليارات ونصف المليار دينار لنواب رئيس الجمهورية العائدين إلى مناصبهم، ويختم مقالته بمثل شائع: (من لا يملك يعطي لمن لا يستحق).
ومقالة (وامعتصماه) ويروي قصة المرأة التي استنجدت بالمعتصم بالله ويقارن بين ما فعله الأجداد في جنائن المعلقة قبل آلاف السنين من توصيل المياه إلى أعلى الجنائن، وبين أحفاد بابل الذين لا يستطيعون تنظيم عمل المجاري والبنى التحتية الأخرى ويختمها بقوله ولكن ولا واحدة استنجدت بأي مسؤول وهي تغرق بمياه الأمطار في بغداد، وصاحت واحكومتاه ولكن بكل تأكيد صاحت ونادت بصوت عال: ( آه من حكومتاه).
وفي مقالة (ثورة معروف الرصافي ) الذي يصرخ في المجلس النيابي الذي كان عضوا فيه عن لواء الدليم: سادتي أنا شيوعي، لقد جاء في القرآن الحكيم (وفي أموالهم حقل للسائل والمحروم، الذاريات :19) فالضمير هنا يعود على الأغنياء. سألتكم بالله هل الشيوعية غير هذا؟
وفي مقالة (خروقات انتخابية خضراء) معلقا على تقرير المفوضية الفاسدة والتي قللت من الخروقات ووصفتها بالخضراء وتعني بها القليلة جدا وغير مؤثرة على النتائج ويقول إبراهيم هل تعد خضراء تصويت قوات الأمنية مرتين إذ من يضبط أن القوات لم تصوت بيوم التصويت إلى جانب العديد من الخروقات التي أضرت بالعملية الانتخابية، ولكنه لم يدعو إلا لمزيد من الحذر والمراقبة والمساهمة من قبل قوى التيار الديمقراطي وينهي مقالته بالإشارة إلى قصيدة مظفر النواب ( وشمس العراق ستشرق بالأصابع الملونة من ليل البنفسج ... يا طعم)
وفي مقالة (ولف الجهل) والعنوان أخذ من حكاية شعبية معروفة يذكرها كما هي ولكنه يعود مرة أخرى إلى شخصية بهلول الذي خرج من خيمة الاحتجاج منزعجا ووقف في الساحة تحت المطر قبالة الكونكريت العظيم ليخاطب الكابينة الخضراء معاتبا:
اهنا يمن جنه وجنت جينه وكفنا بابك
غلطة عمر ما تنسي اشمالك نسيت الجابك
وهناك توظيف من تجارب الشعوب في مقالاته مثل تجربة شيلي في (الوحدة الوطنية) وخيانة بينوشيت الذي عينه سلفادور الليندي. ليؤكد على أن الخلل ليس بالتحالفات وإنما الخلل في الخيانة.
من هذا العرض السريع يكتشف القارئ عمق هذه المقالات وتأثيرها على ما يجري في وطنينا من موبقات ترتكب في وضح النهار وبودي أن أنهي مقالتي هذه بالإشارة إلى نهايات كلماته الرسمية التي كان يلقيها باسم اتحاد الأدباء والكتاب العراقي هي الأخرى غير تقليدية مثال على ذلك: نهاية كلمة ألقاها في المربد:
الطائفيون يقتلون بعضهم البعض، النفعيون يقتلون بعضهم البعض، اللصوص يقتلون بعضهم البعض، الساسة التجار يقتلون بعضهم البعض، الشعراء يقتلون الظلام، الشعراء عليهم السلام، وعليكم السلام”.

عرض مقالات: