عندما تبنيت هذا المشروع، ايمانا بمدى اهميته وبمدى حاجة الفنانين العراقيين في الداخل والخارج وكذلك جمهور المثقفين والمختصين في كل مكان  الى عمل كهذا في محاولة لإذابة الجفاء بين اجيال الفنانين بالداخل والخارج وتسهيل امكانية قراءة تجارب ظلت بعيدة عن فناني الداخل،  لم اقصد في كتابي التوثيقي ان يكون  مادة نقدية او حكما نقديا نهائيا لما يستحق المتابعة والقراءة لهذه التجارب، بل وددت ان يطلع عليه جمهور المثقفين العراقيين بشكل خاص والعرب والأجانب بشكل عام  ليستدلوا على ان فن المنفى تجاوز شروطه القسرية المتعلقة بموضوعتي المكان والزمان، بغض النظر عن الاجيال الفنية المقيمة في المنافي المتشعبة والمنتشرة هنا وهناك، اضافة الى جملة من الاشتراطات الذاتية والفنية التي تنبع من المنجز الابداعي لكل فنان، فالمنفى لا يعني بالضرورة مبارحة المكان والانخراط برغبة او دونها مع الآخر الغريب، بل انه ينطوي على ابعاد اكبر تقف في مقدمتها امكانية التواصل الروحي مع الحياة العراقية بأساطيرها المكانية والزمانية، بجمالياتها وفواجعها، بانتصاراتها وانكساراتها، فهي الموطن الاول، والمكان الملتبس، وهي حاضنة الطفولة والبراءات الاولى، وهي الصورة الحاضرة ابدا في ذاكرتنا جميعا. كما ان هذا الكتاب سيكون بمثابة عرض صوري ونظري للمبادىء الاساسية التي تنطوي عليها الحركة التشكيلية العراقية في المنفى، حيث تتبعت عددا من اقطاب هذه الظاهرة الفنية في بعض الاحداث التاريخية وفي الابتكارات الفنية في اساليبهم، واشرت الى العديد من التغيرات في الاساليب والتجارب التي صاحبت ابداعاتهم. ولست ازعم ان المناخات الابداعية المتقدمة هي الفصل في تقديم هؤلاء الفنانين. والذين سيطلعون على تفاصيل الكتاب سيتأكدون من اعتقادي هذا، فالإدراك الحسي والبصري والابتكارات الفنية والاساليب الجديدة، ترتبط جميعها بتجارب هؤلاء الفنانين الذين استغرقتهم رؤياهم فعاشوا فيها، واختطوا ا مساراتهم الفنية من خلالها.

 اقدم نفسي للفنانين والقراء في هذا العمل كقاريء مثلهم يمكنهم ان يحملوا بعض الثقة برأيه من خلال محاولاتي المتواضعة في ابراز هذه الظاهرة واخراجها من حيز التجربة كي تعلن عن نفسها ،في الكثير من التفاصيل المهمة والضرورية، اضافة الى طبيعة علاقة هذه الظاهرة مع الاشياء المصيرية التي تتعلق الى حد كبير مع المنجز الابداعي للفنان المنفي الذي تعمقت بروحه الكثير من المفاهيم الحديثة، رغم وطأة الظروف وفضاءاتها المغلقة والمطوقة التي تفاقمت في حياة عدد غير قليل من هؤلاء الفنانين المساهمين في هذا الكتاب، الا انهم قدموا نتاجات مرموقة خلال هذا المخاض العسير، مستخدمين طاقاتهم الابداعية، التي حفلت بالعمق والتجدد.

ليس الفن التشكيلي هو الاهم، ولا الاكثر شعبية في عالم الثقافة، لكنه في العراق الاكثر خصوصية وشخصية، الاكثر حساسية ورقة، وبالتأكيد الاغنى بين الفنون الاخرى التي لاتزال تحبو جميعا من اجل بناء وترسيخ مفاهيم وقيم جديدة ترنو الى تأكيد واحترام التعددية الفسيفسائية الثقافية والسياسية، في عراق متحضر متخلصا وللأبد من ثقافة الاستبداد والعنف للوصول الى ثقافة الابداع والتنوع.

في الجزء الاول من هذا المشروع، الذي سأحاول من خلاله متابعة وتغطية اكبر عدد ممكن من تجارب وابداعات فنانينا التشكيليين العراقيين في المنفى، تناولت مجموعة منهم، كنت بشكل او باخر قريب من نتاجاتهم من خلال عملي كرسام وامارس كتابة النقد الفني ، بإعادة اكتشاف تجاربهم، بقراءة موجزة تشكل مدخلا لتأمل اعمالهم ، حيث ركزت في هذا الجزء ،الذي أمل ان تليه اجزاء اخرى، على بعض الاسماء المنسية التي  لم تنل حقها من القراءة والنقد، لاسيما وان هناك تجارب متميزة لفنانين مجهولي الاسم والسيرة والابداع لدى العديد من المتابعين والمهتمين بمسالة النقد الفني. وانا برصدي لهذه الاسماء لا أعنى ان من اخترتهم يمثلون النموذج الاكثر اهمية، والاكثر ثراء والاكثر موهبة من اسماء كثيرة اخرى حال العديد من الظروف دون الاتصال بها والتعرف على تجاربها، لربما يكون بعضهم أكثر اهمية من اسماء كثيرة وثقتها في هذا الكتاب، وهم من نفس المراحل التي تعمدت ان تكون متقاربة زمنيا.

 لقد سجل التشكيلي العراقي في بلدان الاغتراب حضورا ملموسا، الا انه عاش تجربته في بدئها او تكاملها في العراق، وهذا ما حدد وبشكل كبير طريقة تفكيره في العمل والعلاقة.  المنفى رغم قسوته، لم يكن للعديد من التشكيليين العراقيين، كما للعديد من المثقفين العراقيين، إلا خيارا للخلاص من الاجواء الموبوءة بعد ان وجدوا أنفسهم غير منسجمين مع مؤسسات النظام وهيمنتها، اذ لم يتماهوا مع نظامها الفاشي الذي حاول بالترغيب والترهيب ترويض الذاكرة الجماعية ليدمجها في مشروعه القمعي لمصادرة وتهميش واقصاء الاخر. هذا الاخر الذي لم يكن امامه سوى الهجرة الى المنافي البعيدة، ليحمل الوطن في قلبه دائما، وليكون له حضور دائمي في جميع نتاجاته. ان معادلة الانا والوطن حدت بالفنان المغترب الى تحقيق تفاعل جديد، محمولا برغبة داخلية للكشف عن ذاته وتوازنها واعادة بنائها، تعمّدها عملية التقابل والتلاقح والاندماج في المجتمع الجديد، وهو ليس انسلاخا وتذويبا وفقدانا للهوية الوطنية، بل هو انفتاح على ثقافات تتنوع وتزهر فيما بينها وبين الثقافة العراقية. ومع ان الفنان المغترب استطوطنه العراق، الا انه انفتح على الغرب بثقافته وثورته التكنولوجية والعلمانية وتحرره الذاتي والفكري والاجتماعي والنفسي التي افرزت صيغا واساليب مختلفة حاول الفنان العراقي من خلالها التوفيق بين التجربتين بعد ان وعى ان التجربة الجديدة تظل ناقصة ان لم يكن قد استفاد من وجوده في التداخل والاخذ والعطاء والاضافة والتواصل، ساعيا لتحقيق ذاته ومعرفة عوالم الاخر الرحبة الجديدة عن كثب.

التجارب الثقافية العراقية المبدعة في المنفى كانت وما تزال بمثابة طوق النجاة وجسر التلاقي والاطلاع والمعرفة، ليصبح العديد من نتاجات المغتربين خطوة اضافية للفن العراقي، وضلعا مهما وحيويا في دراسة ظاهرة الفن التشكيلي العراقي المعاصر.  

ربما تكون المعرفة الجديدة غنية وثرة لعدد كبير من فناني الخارج الذين التقوا بانفتاح مع ثقافات تلاقحت مع ثقافتهم العراقية، وربما تكون فقيرة جدباء للبعض الآخر، الا ان العمل المبدع هو الذي يحدد ابعاد تلك المعرفة من خلال ما تشي به من تجديد في عالم من الغموض المقلق والآسر معا، فهو عالم الحرية الأرحب، حيث بحث الفنان المغترب في اجوائه عن فرص للتكيف ليرتمي ،في احضان التجريب فكان هذا المنفى قادرا على منح العديد  بطاقات للدخول الى رؤية تجارب وابداعات الاخرين بحرية مطلقة، فقد تهجى الفنان العراقي المغترب مفردات لغتها، واختبر احاسيسها، وبحث عن فرص التكيف مع محيطها الجديد، وهو في كل هذا حمل الوطن في سويداء قلبه، وشغافه النابضة غير مبتعد عن تجارب الوطن الاولى التي خلفها وراءه والتي اسست وجوده واحاسيسه ومشاعره. وكانت ابداعات هذه الفئة أكثر انفتاحا وتفاعلا مع الكثير من المستجدات المعرفية والمهنية المعاصرة. للبعض الآخر من الفنانين المغتربين، كان المنفى مدعاة للكآبة والانزواء والانطواء وكأنهم لم يغادروا العراق، وهذا قد يعود الى قناعات ذاتية تباعد   بينهم وبين ثقافة وخصوصية ذلك المجتمع الحاضن لهم، حيث أصبح الوطن عند الكثير منهم هاجسا يغلي في الداخل، وينزع الى اعادة صياغة العراق وفق المتخيل الشخصي وصولا الى المبالغة في التعبير عن المشاعر، بالإضافة الى استعادة التجارب الفنية لجيل الرواد والاجيال اللاحقة المتميزة في الستينات والسبعينات من القرن الماضي.

للبعض الآخر من الفنانين التشكيليين المغتربين حياة جديدة، تغويهم وتغدق عليهم، لذا اقترب هؤلاء من المنتج الغربي ومن اجوائه وفرصه ومفارقاته ودخوله في علاقات الانتاج الفني مع اسواق العرض واساليب الانتشار، وانعكس ذلك في نتاجات توضح تأثيرات الفنانين الغربين بعد عمليات الصقل التي اعتمدها البعض من خلال الارتكاز على التقنيات التي استعيرت من تجاربهم. البعض الاخر حمل قناعة جمالية متجددة بعد البحث عن افق اخر لتجربته الوجودية، وحاول ان يكون وفيا لتجارب فناني الغرب ليذوب ولو شكليا في ثقافة بلد المهجر. اما البعض الاخر فقد حمل قواعده الثقافية العراقية ليمرر عليها رياح الاستعارات الغربية في الاساليب والمضامين، وليماشي الحداثة في انتماءاته العالمية التي تطالبه بها الهويات الثقافية الجديدة، فاتجه نحو التجريد والاغراق في اللاموضوع والمصادفة والعفوية، كما تحول التجريد نفسه عند البعض الى مساحات تأويلية مختلفة ومتجددة.

تعامل البعض من فنانينا مع المعاصرة كصورة استعراضية، سعيا الى تجربة يشعر من خلالها الفنان بالانتماء الى الاخر، فأوصله هذا الشعور الى الاهتمام بمعايير مجردة لتحديث الشكل بدلا من العمل الفني نفسه، ووجد فيه التعبير الجديد عن الحقيقة الكامنة خلف المظاهر وخلف المادة، فحاول التحرر من كل القيود الاجتماعية والثقافية والسياسية، والتخلص من الفن التقليدي بكل اشكاله ووسائله التعبيرية ظنا منه انه يستطيع التحرر من كل الوسائل والتوجه مباشرة الى اكتشاف نفسه والعالم، من خلال استخدام اي شيء يمكنه التعبير بواسطته عن افكاره وتخطي حدوده الجسدية، وهو فن لإرساله له ولا وظيفة سوى تحديد نفسه. هناك فئة اخرى من الفنانين العراقيين اغراهم الدوران حول الخط العربي على انه تأسيس لفن عربي بعيد عن التأثيرات الغربية، وعلى اعتبار ان الرؤيا التشكيلية العربية بحاجة الى تنظيرات مستقلة عن الجمالية الغربية. هذا الاتجاه ينحو الى التخلص من التبعية للغرب ثم النزوع نحو اصالة وتعزيز الانتماء القومي، والى تجاوز مرحلة الانبهار للفعل الابداعي الغربي بدلا من تجذير محاولات التفكر والتأمل في الارث البصري بموضوعاته واساليبه وخاماته ورؤاه. بعض فنانينا اعتبر " الحروفية" كطرح حداثوي يتأطر في الروح التي تستند الى تراث الخط والزخرفة القديمين، وهذه الحروفية شكلت تيارا حاضرا بصيغ واساليب مختلفة، وهناك من طور تجربته بعد ان اغناها بالبحث والتجريب على اعتبار ان الحرف العربي يتفرد بقدرات تشكيلية وتعبيرية الى جانب كونه اداة لها امكانات بصرية وجمالية عالية.

ظاهرة الارهاب والقمع التي سادت في العراق ابان الحكم الفاشي والتي تأصلت في إطار النظرة الاستبدادية للمشهد الرسمي، اصبحت نصوصا سخرها الكثير من المبدعين العراقيين في المنفى في اعمالهم، فقلق الفنان وجروحه وآلامه والخسائر التي اصابت مجتمعه واصابته، جعلته يتأرجح بين فضائين. بين ما تحمله مخيلته وبين المناخات التي يعيشها، فالزم البعض نفسه برؤيا سياسية تمثلت بمطالب بالحرية والديمقراطية وادانة القمع، فتقدم الموضوع السياسي على الرؤيا الفنية واصبح يدور في عمله الفني، ولفترات طويلة، حول الاشكالية العنفية التي مارستها مؤسسات النظام العراقي الفاشي السابق ، فأضحى انتاجه يتقصى اثار العنف وتناميه في الوطن وانعكاساته على الابداع التعبيري، واصبحت هذه الظاهرة مركزا للانطلاق الى محركات التعبير وطرح العديد من الاسئلة، حتى صار البعض يكتشف انتصاره على الموت والعنف والقلق بالتوثيق من اجل تلمس الامانة في عملية الصراع التي يعيشها في منفاه، كما ان هذه الظاهرة اصبحت علامات للرفض والادانة في الكثير من المنجزات التشكيلية .

 كما استثمر البعض، في إطلاق ملكاته الابداعية والتعبير عن المواضيع التي اختارها للعديد من أعماله، حرية التعبير ومحلات العرض ورحابة صدر المشاهدين الجدد واصحاب الغاليريات، لتغمره هذه المنافع بالتكيف والتطور.

فوائد جلى منحتها المنافي للفنان العراقي، تقف في مقدمتها الاستزادة المعرفية والاحتكاك بالثقافات المختلفة، اضافة الى التقاليد التاريخية العريقة لفنون هذه البلدان التي نمت وتطورت فأنضجت تجارب ابداعية جديدة للفنان، ومنحته سعة الادراك في صياغة السؤال الحر المتضمن مختلف نواحي الحياة والوجود. لقد اسبغت ثقافات هذه البلدان ايضا على مادة وعطاءات الفنان العراقي نكهة لا تتسم بالمحلية الصرفة كما كان الحال من قبل، بل اصبحت قابلة لعبور مدن ودول وقارات ابتغاء للامتزاج بالثقافات والفنون العالمية، ومن هنا، فان الفنان العراقي المبدع المنفي المزود بهذه الرؤيا، التي اخذت في الاتساع الممتزج بملامح كونية من خلال التواصل مع ابداعات الشعوب الاخرى، ومن اجل تحقيق ذلك، لجأ البعض الى توسيع التجربة الحسية والتعامل بمرونة عالية مع الاشياء التي تحيطه من مجتمع وبيئة وافراد.

اصبح المكان الجديد حافزا لإعادة اكتشاف المكان القديم، ومحطة تقود لمواجهة العالم بهوية مركبة تحمل انتماءات متعددة لأكثر من حضارة وثقافة ليتوحد الفنان المغترب مع رحابة العالم، مع كل اشتراطات المنفى، الامكنة والثقافات والبشر، وملابسات الحاضر، وتحديات المستقبل، والتزاوج الثقافي، والتكامل الاجتماعي، مع ادراكنا بان كل فنان سواء بالداخل او الخارج هو حالة  بذاتها، لاختلاف المؤثرات وقدرة الاستيعاب والرفض والقبول، وتقبل معارف الغير، ومواجهة الضغوط واختلاف ردود الافعال حسب تركيب الشخص  وقدرته على اثراء نفسه معرفيا وابراز الوجه الناصع للفنون التشكيلية العراقية ببعدها الانساني وبعدها التاريخي عبر تنشقها من عبير الحرية الذي اتيح لها.

لقد سعيت في الجزء الاول من هذا المشروع التوثيقي، ان يضم مختلف الاساليب والتيارات الفنية في الرسم والنحت والتصميم والخط والسيراميك، واعمال الفيديو والفوتو شوب والاساليب الجديدة للمدرسة المفاهيمية،  باعتبار ذلك واحدا من الحلول المثلى لعكس تجارب متكاملة بهدف النهوض بالثقافة العراقية، والحرص على تدوين وتوثيق هذه التجارب مهما تبعثر مبدعوها على سطح الكرة الارضية، لجذب الانتباه الى الفن التشكيلي العراقي بكل تنوعاته وعطاءاته في عصر الاستهلاك البصري الذي يغزو العالم، وفي زمن صار الفنان فيه اكثر حرية في اختياراته واكثر انفتاحا على الفنون الاخرى، وصار الفن يجلب صفاته معه حين يحضر، علما ان الفنون حسمت الصراع ضد مسالة المضمون والشكل، فالنتائج الفنية الجديدة تجعلنا على مقربة يومية من كشوفات جمالية جديدة، ومن قيام انظمة علاقات شكلية جديدة، فالتجريدية التي جاءت بعد تحرر الفن من تقاليده الاولى، تشهد تخلي بعض الفنانين عنها من اجل الدخول الى عوالم جديدة تبحث عن ذائقة جمالية مختلفة .

 الكتاب، كما ذكرت، هو اعادة قراءة واشباع رغبة شخصية، في محاولة لرصد الفنون التشكيلية في بلدان الاغتراب، وللإشارة ايضا الى ان بعضا من فنانينا استثمر فرصة عيشه الجديد وحمل رغبة لهاجس اللاشكل الذي يفتح الابواب بين الاوساط الثقافية اليوم ليجعلها قادرة على تجاوز النتائج المباشرة في العمل الفني، والانطلاق في متعة التجديد المستمر والمفتوح على خيال غير مقيد بصفات معينة، وان بدت في بعض اوجهها مقاومة بذاتها.

ليس ثمت عمل فني من دون مرجعية متجهة الى خارج العمل، تضمر في عناصره كل التحولات السياقية التي تقوم بها مجموعة من الافراد في اماكن تواجدهم وما يترتب عليها من تحولات ثقافية ، تجعل من التجريب محركا لها، ونحن ندرك بان الكتابة عن الفن امر شائك وذو صعوبات كثيرة، تتمثل في الافتقار الى الدور المهم الذي يقوم به النقد في التفاعل مع الحركة الابداعية، اذ لا يمكن تصور ابداع مؤثر من دون اسهامات نقدية واعية فاعلة، والفارق بين المفهومين اللغوي والبصري هو الذي يولد المسافة الممتدة ما بين بنية اللغة وبنية الصورة، وتظل اللغة في حالات كثيرة عاجزة امام المشهد والطريقة المباشرة لحضور الصورة.

ان غياب الحس العلمي والاكاديمي في قراءة الظواهر التشكيلية المختلفة وسيطرة الرؤى السطحية  تترك العمل التشكيلي احيانا من دون غطاء نظري جدي، الامر الذي احدث التباسات كثيرة في فهم العملية الابداعية ذاتها وافرز اشكالا هزيلة للكتابة عن الفن ترتبط اساسا بوسائل الاعلام، الامر الذي لعب دورا سلبيا انعكس على حركة الابداع ذاتها، ونمت ظواهر مثل المصلحة الشخصية والمحاباة والكتابات المتعجلة وغياب المعايير الموضوعية على حساب الموهبة الحقيقية وعلى عملية النقد، فتحولت الاخيرة من تجربة حية وابداعية الى عمليات وصفية تحاكي الاساليب النقدية للعمل الادبي. فالعمل التشكيلي له اسسه ولغته التي تختلف عن المعنى اللغوي التقليدي، والجانب البصري له قواعده ومفرداته وخلفيته التاريخية. ويدرك العديد من المتخصصين ان اللغة الادبية ظلت لفترات طويلة عاجزة امام حضور وتفسير العمل التشكيلي، وخلقت وصفات نقدية جاهزة، وبنت نفسها على ادعاءات معرفية غير موضوعية وغير دقيقة على حساب الموهبة الحقيقية والفهم النظري المطلوب، مما جعل الانجاز الجمالي فنا من دون مراجع نظرية ومراجعات نقدية، وبالتالي اغتراب الفن البصري عن الوعي السائد، كما ظل العمل التشكيلي العراقي في بلدان الاغتراب مفتقرا الى المحرك النظري المتمثل في الرصد والمتابعة والتقييم الذي يستلزم تفاعلات مع الحركة الابداعية ومواكبتها في كل اتجاهاتها واساليبها، فالنقد الفني هو ظاهرة تلازم الانجاز الفني من دون شك.

هذا الكتاب، وما سيقدمه من تجديد للحوار والمساجلة، يمكن اعتباره طريقا للحاضر على الأقل، من شأنه ان يزيل الكثير من التساؤلات والنسيان الذي علق بالعديد من مبدعينا وهم يعيشون سنوات هجراتهم الطويلة والذين ويستمرون في العطاء وسط أجواء المنفى، يتباينون فيها من حيث المصادر الثقافية والانحدارات الاجتماعية والانحيازات الفكرية والأصول القومية، وفي الوقت نفسه يشتركون بكل ما هو تقدمي يحترم حقوق الإنسان كأبناء أوفياء لشعبنا يريدون له ان يزدهر ويكبر في الحرية. انه جهد يحاول ان يعطي  للفنان المغترب الحق في المساهمة بوضع أسس تنطلق  من الخارج الى الداخل الى الخارج، وهي مهمة تروم المحافظة على زخم الحركة التشكيلية في خارج الوطن وتلح على ارتباطها داخل الميدان الثقافي العراقي العام من خلال خلق بذور حقيقية تحفظ حصانة العملية الإبداعية ضد كافة مظاهر القمع والقهر، وتتمثل على الصعيد العملي بتطوير المعايير التي تسمح بالمحافظة على وحدة الإبداعات والتعريف بها لتقرأها الأجيال العراقية والعربية بكل ما يليق بمساهماتها بعيدا عن التشويه والتغييب المتعمد للممارسة الإبداعية .

لقد سعيت، مع صديقي الفنان جودت حسيب الذي ساهم وبشكل جاد وحيوي بروعته الانسانية الحميمية وجهوده الفنية واللغوية، الى اخراج هذا الجهد الى النور لكي يكون تعريفا بأعمال العديد من فنانينا، وبمثابة دعوة موجهة الى كل من يهمهم الشأن الجمالي والترابط ما بين الإبداع الفني وتجلياته الاجتماعية والتاريخية للمساهمة في خلق حوار مستمر ومفتوح على تجارب غير مقيدة بصفات محددة، بل تابعة لحركة تجدد الانواع والاساليب الفنية.

عرض مقالات: