ما العالم إلا كفان، يد تعطي الخبز واخرى تسرق خبز الناس

يحتل الشاعر رشدي العامل مكانة خاصة في تجربة الحداثة الشعرية العراقية، ذلك ان تجربته الشعرية قد نضجت بعد ان اكتملت تجربة الحداثة الشعرية الخمسينية التي اتخذت لها من قصيدة الشعر الحر اداة للتوصيل والتعبير ، ومهدت لظهور موجة ثانية من حركة الحداثة تمثلت بتجربة جيل الستينيات الشعري و”البيان الشعري” الذي كتبه الشاعر فاضل العزاوي و وقع عليه ايضا الشعراء فوزي كريم وسامي مهدي وخالد علي مصطفى ، ونشر في شهر مايس ( أيار ) عام ١٩٦٩. الا ان تجربة  رشدي العامل وعدد آخر من الشعراء امثال حسب الشيخ جعفر ،وصادق الصائغ ، ويوسف الصائغ ،وسعدي يوسف ، ومحمد سعيد الصكار وسلمان الجبوري ظلت خارج هذا التجييل او التحقيب . ووصفت هذه الجماعة الشعرية انها تنتمي الى ما سمي بالجيل الضائع وهو مصطلح غير دقيق اجترحته جيرتويرد شتاين ماخوذ من تجربة الادب الامريكي تضم روائيين امثال همنغواي وفتزجيرالد ودوس باسوس وغيرهم .

كما ان الشاعرعاش تحربة ثقافية وسياسية متميزة ، قادته الى المنفى (خلال الحكم الملكي) والى السجن تارة اخرى بعد  ١٩٦٣). و ارتبط الشاعر بعد ثورة تموز ١٩٥٨ بمجموعة شعرية تضم عدداً من الشعراء الشبان  الذين اتخذوا. لانفسهم زاوية صغيرة في مقر اتحاد الادباء بعد تأسيسه، اطلقت على نفسها جماعة المرفأ  وكانت تضم عدداً من الشعراء منهم رشدي العامل،ومحمد سعيد الصگار ، وحساني علي الكردي، وسلمان الجبوري وطراد الكبيسي وغيرهم .وكانت تجارب هؤلاء الشعراء تنطوي على نزعة تجديدية ،كان يمكن لها أن تشكل مرحلة جديدة في حركة الحداثة الشعرية  لولا انقلاب  ١٩٦٣،الذي قطع السياق الثقافي المتنامي آنذاك.ولايمكن الجزم ان شعراء المرفأ كانوا يمتلكون ملامح شعرية مشتركة ،وذلك ان لكل منهم خصوصيته،وتجربته المتفردة.

وكانت تجربة رشدي العامل تمثل مزاوجة بين منجزات قصيدة الحداثة الشعرية الخمسينية التي أطلقها السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي،والرؤيا الرومانسية التي كانت تجد لها صدىً داخلياً في شخصية الشاعر وسلوكه.فقد كنا نلمس في شخصية رشدي العامل تماهياً بين رؤيته الشعرية وسلوكه الشخصي: فهو كائن شعري حساس ومتفجر.لكن رومانسية رشدي العامل ،ربما بفضل ارتباطها بحركة الحداثة الخمسينية ،وبسبب انتمائه  السياسي والايديولوجي وارتباطه بالمشروع الثقافي والسياسي لليسار آنذاك،اتخذت هذه النزعة الرومانسية ملامح “ الرومانسية الثورية”، وذلك من خلال الابتعاد عن الاتجاهات الهروبية والانطوائية والنرجسية المتطرفة ،التي وسمت بعض ملامح الرومانسية الغربية والعربية والبحث عن مقومات ثورية إنسانية منفتحة ومرتبطة بمستقبل الانسان وكفاحه من اجل عالم افضل .وكان الفيلسوف والناقد الماركسي الفرنسي هنري لوفيفر  قد أصدر عام ١٩٥٧مانيفستو الرومانسية الثورية ،الذي يرى فيه انه الصيغة الملائمة جمالياً، للحركات الغربية المعادية للرأسمالية خارج الشكل الحزبي.كما استخدم المصطلح بنطاق ،محدود لوصف بعض الاتجاهات الرومانسية التي تحمل نزوعاً ثورياً أو متمرداً. و ربما يمكن لن نصف رومانسية الشاعر ابي القاسم الشابي بالرومانسية الثورية أيضاً.

لقد ظلت الملامح الرومانسية في تجربة الشاعر رشدي العامل واضحة وذلك من خلال تجربته التي امتدت منذ العام ١٩٥١حيث اصدر ديوانه الأول “ همسات عشتروت” وحتى   ١٩٩٠لكن رومانسيته تطورت هي الأخرى واكتسبت ملامح ثورية متمردة ومنفتحة على الحياة والمستقبل .لكن الجذر الذاتي ،الغنائي ،وأحياناً النرجسي بقى مهيمناً .كما ان الشاعر نفسه لم يكن ينفي كونه شاعراً رومانسياً ،وعد ذلك من صلب رؤيته الشعرية الخاصة وشكلها بطريقة متفردة تعبر عن شخصيته الشاعرية،وتجربته وميوله ومواقفه في الحياة والسياسية والطبيعة.

وأود ان استدرك هنا لأبعد الاعتقاد ان تجربة رشدي العامل بسبب انطلاقها من مفهوم الرومانسية الثورية بما تنطوي عليه من ايمان بأن الشعر تعبير عن النفس، من انها تعتمد العفوية والفطرية والتلقائية فقط . فتجربة الشاعر رشدي العامل تكشف عن بنية شعرية مثقفة ومدروسة بشكل يقربها احياناً من مفهوم “ الصنعة” ، كما أن اغلب قصائد تحمل مضامين اجتماعية وثورية تجعلها اقرب الى انصار الواقعية الثورية، وربما الواقعية الاشتراكية كما قدم في ديوانه السبعيني “انتم اولاً”  قصائد تجريبية  : ففي احدى قصائده الموجهة الى ولده (علي) نراه يعيد صياغة قوانين الصرع الاجتماعي والطبقي بطريقة شعرية:

“يا ولدي

ما العالم إلا كفان

يد تعطي الخبزَ

واخرى تسرق خبز الناس

اعرف ان الارض لمن يحرثها

والارض لمن يزرعها

لكن القمح واشجار البستان

واعذاق النخلة للحراس”

لكننا نجد من جهة اخرى غلبة الثيمات الرومانسية،وفيها الاحساس بالوحدة والغربة والحنين الى الماضي ،وعشق الطبيعة ،والاستغراق في لحظات عاطفية والانغماس في عوالم الحلم والوهم والخيال.

لقد ظل الشاعر رشدي العامل،على الرغم من رومانسيته وغنائيته صاحب قضية اجتماعية وسياسية، ولم يفقد الامل في ولادة فجر جديد تسقط فيه دكتاتورية صدام حسين. إذْ ترك الشاعر وصيةً شعرية يقول فيها:

إذا ما سقط الطاغية

إقرعو ا على قبري ثلاثاً

لأعلم أن ليل العراق الطويل قد إنتهى.”

عرض مقالات: