يقودنا القاص والروائي الكبير محمد خضير في قصته القصيرة "المحجر" الى عالم سوداوي وديستوبي Dystopia (نقيض اليوتوبيا Utopia ) غامض ومتشابك،ويحمل الكثير من الأسرار والتابوات والمكبوحات والتناصات ويضعنا في مواجهة سلسلة لاتنتهي من الأعمال الروائية و القصصية التي تصور معاناة الأنسان في ظل أنظمة الأستبداد الشمولي والدكتاتوري، والتي تحيل الأنسان الى مسخ يفقد حريته وأنسانيته من أجل خدمة قيمة أعلى، صنمية وفتيشية تتمثل بالنظام أو المؤسسة أو الحزب أو الأخ الأكبر،كما وجدنا ذلك في روايات عالمية منها رواية فرانز كافكا القصيرة "في مستعمرة العقاب"the Penal Colony In " الصادرة عام 1919 ،والتي ترجمت الى العربية تحت عنوان "مستوطنة العقاب" ترجمة كامل يوسف حسين،ونشرتها دار شوقيات المصرية عام 1996 ،ورواية جورج اورويل المشهورة "1984" الصادرة بالأنكليزية عام 1949،وطبعت أكثر من طبعة عربية منها ترجمة أنور الشامي عن المركز الثقافي العربي عام 2006 ،بيروت،ورواية العقب الحديدية Iron Heel للروائي البريطاني جاك لندن المنشورة عام 1908 ،والتي ترجمت الى العربية من قبل منير البعلبكي،عام 1979 (منشورات دار العلم للملايين،بيروت) وغيرها ، فضلاً عن روايات وقصص عراقية وعربية دونت صفحات قاتمة وخانقة من حياة الفرد تحت ظل الأنظمة الأوتوقراطية والتوليتارية والثيولوجية،أذكر منها رواية "اعجام" للروائي العراقي المغترب سنان أنطوان الصادرة عام 2002، وقصة قصيرة للروائي محمود سعيد نشرت باللغة الأنجليزية في مجلة "الأدب العالمي اليوم" World Literature Todayعام 2012 تحت عنوان "مستعمرة العظاءات" Lizards’ Colony، ورواية "أحمر حانة" للروائي حميد الربيعي (2017) ،ورواية "ليلة المعاطف الرئاسية" للروائي محمد غازي الأخرس (2018) ورواية "قياموت" للروائي نصيف فلك (2015) وغيرها.
يستهل القاص محمد خضير سرده بتوظيف ضمير المتكلم الاوتوبيوغرافي (أنا) الذي يسرد فيه الراوي،بوصفه شاهداً ومشاركاً في الحدث تفاصيل زجه في "محجر" غريب يضم عدداً كبيراُ من المحتجزين والمحجوزين لسببين،اما لأسباب تتعلق بأنتشار الفيروس الوبائي، او لأسباب سياسية تتعلق بالتحريض على التمرد ضد نظام الحجر الذي تقوده "الأخت الكبيرة سارة"، التي تذكرنا بشخصية "الأخ الاكبر" Big Brother في رواية جورج اورويل (1984). ونكتشف نزعة ميتاسردية في القصة في محاولة البطل تدوين الوقائع ومقارنتها وتوثيقها والعودة الى أرشيف المحجر السري.ومع ان القاص نجح في ان يخلق انموذجه الخاص ،زمنياً ومكانياً،والذي يعكس أجواء التراجيديا العراقية،الا انه استطاع ان يمتص ،تناصياً الكثير من الأجواء والمواقف والشخصيات من رويات الديستوبيا المختلفة.أذ يقيم بطل القصة مقارنة بين هذا المحجر ونماذج مشابهة في نصوص (أدغار الن بو) وغيره ،لكنه نفى ان تكون هناك أية صلة بين المحجر ومستعمرات العقاب المختلفة ،في أشارة غير مباشرة لرواية فرانز كافكا المعروفة "في مستمرة العقاب"،كما ان بطل القصة و راويها بدأ يتماهى الى حد كبيرمع (ونستن سمث) بطل رواية جورج اورويل (1984) .فهو يعيش ايضاً تحت رقابة دائمية من قبل السلطات المرئية وغير المرئية التي تديرها "الأخت الكبيرة سارة" قرينة "الأخ الأكبر" ،كما يعمل بطل محمد خضير في قسم التجهيز والسيطرة النوعية ،وتكون وظيفته أعادة كتابة التاريخ وتشويه الكتب الكلاسيكية ومنها مؤلفات فرويد وماركس بمايتفق وسياسة "الأخت الكبيرة سارة".وقد انجز في النهاية اعادة كتابة كتاب كارل ماركس"رأس المال" وتحريفه،مما أكسبه رضا المحقق (ط) الذي منحه لقب "البيزار"،وهو كما يبدو يطلق على مربي الصقور والطيور الجارحة ،لأنجازه مثل هذا العمل الصعب.وشخصية بطل محمد خضير في هذاه القصة تتماهى كثيراً مع شخصية بطل رواية اورويل (ونستن سمث) والذي كان يعمل موظفاً في وزارة الحقيقة في شعبة أبحاث مهمتها أعادة كتابة التاريخ،بل وخلق معجم لغوي جديد على وفق املاءات وتوجيهات "الأخ الأكبر".
لقد لاحظنا ان محمد خضير كان ينطلق أسوة بأغلب رويات الديستوبيا السوداء من منظور "الكوميديا السوداء" Black Comedy التي تفلتر وتصفي كل عناصر العنف والقسوة لتقدمها بطريقة محايدة يمكن أن يتلقاها القارىْ دونما أحساس سنتمنتالي متطرف بعيداً عن التماهي أوالتلبس من خلال عملية تلق عقلية وفكرية تدفع القارىْ الى فعل تأويلي أو نقدي ضد قسوة العالم السوداوي الذي صوره هذا النص أو ذاك.وأعتقد ان بطل قصة محمد خضير كان أقرب مايكون الى بطل اورويل وهو مافعله سنان أنطوان ايضاً في رواية "اعجام"،لكني أجد فارقاً مهماً بين بطل اورويل،وبطل محمد خضير ،فقد كان(ونستن) متمرداً،ورافضاً،في أعماقه ،لسياسة"الأخ الأكبر"،ولذا تعرض الى الملاحقة والتحقيق المستمرين ،أما بطل محمد خضير ،فقد تعرض كما هو واضح الى التدجين والأخصاء والتجريد من نزعته الأنسانية وأصبح شخصية أمتثالية تتقبل ما يفرض عليها.وربما يمثل الذيل الذي كان يمتلكه كناية عن الأذعان والأستكانة والقبول عن طريق هز الذيل علامة على الموافقة.وشخصيته هنا تلتقي مع شخصية بطل كافكا الأمتثالية والسلبية أكثر من التقائها مع شخصية بطل رواية جورج اورويل المتمردة.
أن قصة محمد خضير "المحجر" تمثل من الجانب الآخر رفضاً لأنظمة الاستبداد والقمع المسلطة ضد حرية الفرد ،وهي أدانة غير مباشرة لأنظمة الحكم الدكتاتوري والأستبدادي التي مرت بالعراق والعالم،وربما هي من التجارب المبكرة والسباقة في الكتابة عن جائحة كورنا التي هزت العالم،من خلال وجود عدد كبير من المحجوزين بسبب انتشار الفيروس الوبائي.
لقد أعتاد النقاد على القول أن القصة القصيرة قد خرجت من معطف (غوغول)،وربما يذهب البعض الى الأعتقاد الى ان قصة "المحجر"،لمحمد خضير قد خرجت من معطف اورويل او كافكا،لكني أزعم انها خرجت من معطف محمد خضير نفسه،وهو يعاين بعين الصقر ،عذابات الفرد العراقي تحت ظل أنظمة الأستبداد والقمع والقهر.

عرض مقالات: