يتعين القول، ابتداء، إن ما نعنيه بالمثقفين هم شغيلة الفكر، وننظر اليهم بالمعنى الأوسع للمفهوم، وليس بالمعنى الضيق الذي يقتصر على منتجي قيم الابداع الأدبي والفني.
أما التغيير فنعني به هنا، في واقعنا العراقي الملموس، تغيير بنية النظام السياسي، ابتداء بالتخلي عن نهج المحاصصة الطائفية والاثنية، وهو ولّاد الأزمات.

وحتى يتغير هذا النهج لابد من تغيير نمط التفكير، والشخوص الذين يديمون هذا النهج ويؤبّدونه. ولا نعني بالتغيير، هنا، الاطاحة العنفية بسلطة الدولة وقلب النظام السياسي، وانما الطريقة السلمية التي تشكل الانتخابات أحد أهم عناصرها، الى جانب الحركة الاحتجاجية والمطلبية، وأشكال الكفاح السياسي والفكري الأخرى.
ومن الطبيعي أن قوى المجتمع القديم، المتنفذة، لن تستسلم بسهولة، بل ستهب، على الرغم من اختلافاتها وصراعاتها حول الامتيازات، دفاعاً عن مصالحها الطبقية، مستخدمة كل ما في ترسانتها من أسلحة في مجابهة القوى الساعية الى التغيير، التي يتعين عليها، من بين أمور أخرى، امتلاك فن ادارة الصراع حتى يمكن تغيير ميزان القوى السياسي والاجتماعي لصالح عملية التغيير.
وعود على بدء .. فالمثقف هو حامل الوعي والتنوير، ومشيعهما في المجتمع والحياة، والساعي الى التغيير وتحفيز الآخرين على المشاركة في تحقيقه.
لسنا بحاجة، هنا، الى الدخول في تفاصيل تعريف "المثقف"، غير أننا نود الاشارة، في هذا السياق، وعلى نحو وجيز، الى أن مفهوم المثقف حديث، ويرتبط، كما هو معروف، بـ "قضية دريفوس"، حيث كتب إميل زولا مقالته الشهيرة (إني أتهم) – 1894، وفيها دافع عن الضابط دريفوس، وفي إثرها وقع عدد من كبار الكتاب الفرنسيين، بينهم أناتول فرانس ومارسيل بروست (بيان المثقفين)، وفيه رفضوا الحكم في قضيته، وأرغموا السلطة على إعادة المحاكمة، حيث جرت تبرئة دريفوس وأطلق سراحه.
وقد شاع مفهوم "المثقف" ارتباطاً بهذه المعركة الفكرية – السياسية، وبدور المثقف في الكفاح ضد الاستبداد والجور الاجتماعي، ودفاعاً عن الحقيقة، وسعياً الى التغيير.
وفي القرن العشرين ظهرت مفاهيم بينها "الانتلجنتسيا"، و"المثقف العضوي" (غرامشي)، و"المثقف الرسولي" (إدوارد سعيد). غير أن هذه المفاهيم، وسواها، وعلى اختلافها، تكشف، في حقيقتها، عن جوهر أساسي يتمثل في التزام المثقف بقضايا المجتمع وسعيه الى تحقيق العدالة الاجتماعية، واشاعته ثقافة التنوير والتغيير.

أسئلة أمام المثقف

يعكس التحول العاصف في الاطار الثقافي، رغم كل التباساته وانعطافاته، آفاق نهضة ثقافية يمكن، اذا ما توفرت لها الشروط الصحية، أن تعيد الاعتبار للعقلانية والتنوير، وتخلق فضاء ازدهار الثقافة الابداعية.
هناك حقيقة أن المجتمع لا يعاني من الفساد والتخلف والأزمات وغياب الخدمات والأمن حسب ... بل من مشكلة غياب أو تدني الوعي الذي تراجع، على نحو مريع، في ظل الاستبداد والدكتاتورية والحصار والاحتلال وما بعده من نظام سياسي جوهره المحاصصة الطائفية والاثنية، وعواقب ذلك على مختلف الصعد وبينها الروحي، حيث سيادة فكر وسلوك الانحطاط في المجتمع.
كل شيء في المجتمع مرتبط، كما هو معلوم، بالوعي وبنمط التفكير. فما هو دور المثقف في إشاعة الوعي موقفاً سياسياً أو ابداعاً جمالياً ؟ ما موقفه ازاء الثقافة السائدة، الوعي الزائف، السلطة، النظام السياسي، قيم التخلف، حقوق المرأة ... الخ ما يمثل كوابح للمجتمع العراقي ؟
هل المثقف يتابع حركة المجتمع ؟ يعمق اتجاهات هذه الحركة ؟ يسهم في تحديد وجهة التطور ؟ كيف يدعم المثقف الاصلاح ؟
من الطبيعي أن دعوتنا الى الاصلاح تستند الى الواقع المأساوي الناجم عن حقيقة أنه في ضوء الأزمة الاجتماعية المستعصية بات التغيير ضرورة. فبينما يتعاظم سخط الناس على الواقع المأساوي ونهج المتنفذين في الحكم تتزايد قناعات الوطنيين الحريصين بضرورة انقاذ البلاد من المحنة. ومن الطبيعي أن هذا الاصلاح لا يمكن أن يتحقق الا عبر التغيير. ويتعين أن لا تغيب عن بالنا حقيقة أن القوى المتنفذة تراهن اليوم، كما فعلت في السابق، وخصوصاً في الظروف الحالية حيث تجري الاستعدادات للانتخابات، على استمرار الشعور بالاحباط واليأس من امكانية تغيير الأوضاع، وتعمل على محاصرة وعرقلة مساعي القوى الداعية للاصلاح والتغيير.

الثقافة والديمقراطية

ولا ريب أن دور المثقفين في التغيير يرتبط بموضوع الديمقراطية وعلاقتها بالثقافة. فالديمقراطية هي شرط ازدهار الثقافة، وهي عنصر داخلي في المعرفة يمنحها سمة اجتماعية، ويؤكد القبول بالنقد والاجتهاد والتنوع والاختلاف والتعددية والحوار، وبالصراع الذي هو أساس تجدد المعرفة. وبالتالي لا يمكن الفصل بين الديمقراطية والعقلانية.
وفي إطار اشكالية العلاقة بين الثقافة والديمقراطية تقف موضوعة العلاقة بين المثقف والسلطة والجسور التي تمتد بينهما في حالات وتنقطع في أخرى.
وبما أن الدولة، وهي مؤسسة طبقية سياسية قمعية، تعبر عن علاقات الانتاج السائدة في المجتمع، فانها تسعي الى ممارسة سلطتها باعتبارها التعبير السياسي عن مصالح المجتمع بأسره. وتمارس الدولة سلطتها بوسيلتي القمع والآيديولوجيا.
ولأن الدولة لا تستطيع أن تحتفظ بسطوتها وتحقق مشروعيتها بالقمع وحده فانها تلجأ الى وسيلة الايديولوجيا. ولعلنا نجد هذا التحديد لجانبي القمع والآيديولوجيا في بنية السلطة في تمييز الباحثين الدقيق بين سلطة الدولة القمعية وأجهزة الدولة الآيديولوجية.
وبالقمع والآيديولوجيا تتكامل قدرة الدولة على إدامة سلطتها. وبهذا لا تكون الآيديولوجيا مجرد أداة من أدوات الدولة بل جزءاً عضوياً أساسياً من بنيتها التي تتداخل فيها أجهزة القمع والآيديولوجيا والاعلام مع عملية انتاج واعادة انتاج العلاقات السائدة.
وعلى الرغم من الدور الفاعل الذي تلعبه الايديولوجيا ويلعبه المثقفون حاملو المعرفة في إدارة الدولة وتوجيه المجتمع، فان المثقفين ليسوا، في هذا الاطار، القوة المهيمنة في بنية الدولة، فهذه القوة تتمثل في مالكي وسائل الانتاج، وهؤلاء المالكون هم وحدهم المقررون والمتحكمون بسائر الشؤون، وهذا هو أحد مصادر الاشكالية بين ما هو سياسي وما هو ثقافي داخل بنية الدولة والمجتمع. وتدرك الدولة أن لا سلطة سياسية وقانونية لها من دون سلطة ثقافية، ومن هنا أهمية وخطورة الآيديولوجيا.
ولكن النظام الاستبدادي يشوه وظيفة المعرفة وسمتها الاجتماعية ويحولها الى وظيفة لانتاج وإعادة انتاج علاقات الاستبداد. ويسعى هذا النظام الى تحقيق نخبوية المعرفة عبر انتاج وإعادة انتاج التجهيل، وتحويل المعرفة الى وسيلة لتبرير آيديولوجيا الاستبداد.
ولأن النظام الاستبدادي يقوم على الوحدانية، فانه يعتبر نفسه المرجع الوحيد لكل معرفة ممكنة، ويصبح دور المعرفة البرهنة على أن شرعيتها الوحيدة هي الدفاع عن شرعية الاستبداد، بحيث يصبح الاستبداد خروجاً عن قوانين المعرفة. وهذا ما يجعل المعرفة آيديولوجيا استبدادية، أو يجعل الاستبداد قائماً في عملية المعرفة، ذلك أن الاستبداد لا يسمح بانتاج المعرفة ولا بممارسة ديمقراطية داخل عملية المعرفة.
والى جانب وسيلتي القمع والآيديولوجيا تستخدم السلطة وسيلة المال اذ تستثمر ضغط الحياة الاستهلاكية على المثقف، وضرورة تغطية حاجاته الحياتية، وهو ما يرغم المثقف على تحويل عمله الى سلعة تتحكم بها السوق. وعلى الرغم من أن عملية التسليع هذه تؤدي، من ناحية، الى إخراج الثقافة من حدود النخبة وإشاعتها بين الناس، فانها تتم، من ناحية أخرى، على حساب الشروط الجمالية للعملية الابداعية ذاتها.
وربما كان من المفيد في إطار بحثنا موضوع الثقافة والديمقراطية أن نلقي أضواء على بعض النواحي المرتبطة به، وهي الثقافة والهوية الوطنية، والثقافة والعولمة. ويمكن الاشارة، على نحو وجيز، الى الحقائق التالية:
- يتمثل أحد عناصر الثقافة الوطنية في المقاومة التي تسعى الى الدفاع عن الخصوصية الثقافية، والتي لا تعني مجرد رفض الآخر سياسياً، وإنما تجسيد هذا الرفض في نمط التفكير واللغة والابداع الفني في سياق التمتع بذاكرة تاريخية.
وتتسم الهوية الوطنية الثقافية بقدرتها على التحول والتطور في مجرى الصراع الذي ينعكس على هوية الانسان الذي لا معنى للهوية خارج حدوده.
وفي خضم هذا الصراع، وهو في جوهره سياسي فكري، تتشكل الثقافة الوطنية عبر إغناء وتطوير عناصرها الديمقراطية.
- أما التبعية فهي نقيض التنمية، باعتبار أن الأولى هي جوهر التخلف بينما الثانية عكس ذلك. وتؤدي التبعية الى تشويه الثقافة الوطنية وإلغاء ما هو تقدمي في التراث. ولكن الخروج من التبعية، الذي يعني في جوهره الاستقلال الثقافي، لا يجمعه جامع بالانعزال الثقافي، ذلك أنه في عالمنا المعاصر، المعولم، لا يمكن لأية ثقافة تسعى الى إدامة وتطوير وتجديد تقاليدها أن تستمر وهي منعزلة عن الثقافات الأخرى.
وفي ظل التبعية هناك صراع بين ثقافة تابعة وثقافة وطنية، وهو صراع سياسي واجتماعي في جوهره، يعكس مقاومة إلغاء التنوع الثقافي، أي السمة الوطنية لثقافة أي مجتمع، على أساس أن "الثقافة الغربية" هي النموذج، وكل ما هو خارجها نقيض للحضارة.
- والعولمة هي المرحلة الراهنة من تطور النظام الرأسمالي العالمي الذي تسعى فيه دول المركز الى إزالة كل العوائق التي تحول دون انتقال رؤوس الأموال خارج الحدود القومية باعتبار ذلك أساساً لاستمرار تراكم رأس المال.
وهناك ثلاثة مناهج في فهم العولمة والموقف منها: الأول هو الداعي الى الاندماج المطلق فيها، والثاني هو الداعي الى الرفض المطلق لها، أما الثالث فهو الداعي الى اتخاذ موقف عقلاني منها يقاوم سماتها السلبية ويستفيد من سماتها الايجابية.
وربما تكون مخاطر إلغاء التنوع الثقافي من أخطر نتائج العولمة التي تمتلك تكنولوجيا الانتشار والاخضاع والهيمنة، وهو ما يعكس أهمية استثنائية للصراع الثقافي الذي يتجلى بأشكال مختلفة، والذي يرتبط، على نحو دقيق، بالاقتصاد والسياسة.
وهذا الواقع، بالذات، يدعو الى خوض كفاح على مختلف الصعد، يتجنب ثنائية الرفض المطلق أو القبول المطلق، ويتصدى لظاهرة العولمة بالتحليل العميق الذي يسعى الى توصيف الراهن على الصعيد الثقافي، والذي يؤدي الى منهجية عمل تستوعب حقائق الواقع وآفاق التطور، وتتمسك بالنقد وتسعى الى طرح بدائل لتغيير العالم.
إن ثقافة العولمة الحالية تحاول إلغاء التنوع الثقافي. والمطلوب ليس توحيد العالم ثقافياً بل إبقاء هذه الثقافة متميزة بالتنوع والاختلاف لا فرض نموذج وحيد يراد له أن يكون مرجعية.

غياب المثقفين !؟

لا بدّ من الاعتراف، بداية، بوجود تباين في الآراء بشأن انخراط النخب الثقافية وتوسيع دور المثقف في الحركة الاحتجاجية المجتمعية الواسعة بتلاوينها العديدة ومرجعياتها المختلفة وموزائيكها الثري؛ فهناك من يسعى لاختزال هذا الدور وإكسابه مضموناً مفقراً، حيث يتم الفصل التعسفي بين المثقف ونشاطه الابداعي، وبين انخراطه في الحراك المجتمعي منظّراً ومحرّضاً وناشطاً عملياً وفعالاً. فقد كان غرامشي، يرى المثقف، من خلال وجوده الاجتماعي، ويؤكد أن عالم الصراع الاجتماعي هو الذي يعيد صياغة المثقف.
ويتعين علينا الاعتراف بحقيقة أن الحركة السياسية لم تستطع عكس التغيرات الاجتماعية العميقة ونتائجها الفكرية في سياساتها الثقافية على النحو المطلوب المثمر، اذ بقيت متشبثة بالمواقف التقليدية من الثقافة، والنظرة الأحادية الضيقة التبسيطية للابداع، والاستلقاء على أرائك اليقين والمرجعيات السياسية والآيديولوجية. وكانت العلاقة مع المبدعين تفتقر، في الغالب، الى الأسس العلمية الواضحة والسليمة، وتعتمد على العفوية وآلية العمل الروتينية، والمراهنة على قوة ارتباط المبدعين بالحزب السياسي سواء كانوا داخله أو خارجه. وكان من الطبيعي، والحال هذه، أن يجري اللجوء الى تفسير مبسط لأزمة الثقافي والسياسي.
وفي سياق هذا التباين في الرأي بشان موقف المثقفين من التغيير ودورهم فيه يجري تأويل "يأس" المثقف ودلالاته على نحو تبسيطي وفي اطار نظرة أحادية. فهناك من يعتقد بلاجدوى مشاركة المثقفين في الحراك الاجتماعي بزعم أن هذه المشاركة أخفقت في تحريك الشارع ولم تغير من الواقع شيئاً، وأن المثقف ظل منعزلاً عن الأحداث والتحولات الاجتماعية.
ومن الطبيعي أن نجد، في سياق التنظير لليأس، أولئك "المثقفين"، من ذوي الأكتاف الرخوة، والتفكير الهش، وهم الذين يذكروننا بقول إنجلز: "إنها لسذاجة صبيانية أن يجعل المرء من جزعه الشخصي برهاناً نظرياً".
ويرى البعض أن قوة المتنفذين المتحكمة في كل شيء تمنع المثقفين، بسبب عدم التكافؤ، من أداء دورهم (متى كان التكافؤ هذا شرطاً لممارسة المثقفين دورهم !؟). ويقول هؤلاء إن الظرف التاريخي الذي خلقه التطور العراقي، المعقد والملتبس، هو خارج سيطرة المثقف الذي يقف أمامه أعزل ويائساً. ويشيرون الى أن ما يبغيه المثقف لا يتجاوز رغبته في الخلاص من كراهية السياسيين للثقافة والمثقفين. وهذه نظرة قد تبدو "صحيحة" في ظاهرها، لكنها خاطئة في الجوهر، ذلك أن التعارض بين السياسي والثقافي تعارض مفتعل، ومقصود منه ابعاد المثقف عن ممارسة السياسة، لا بالمعنى اليومي المبتذل، وانما بالمعنى الرفيع، وهي الممارسة التي تجعل المثقف جزءاً من التغيير وفاعلاً فيه. أما عزله عن السياسة فهو ما تبغيه قوى الثقافة السائدة لشلّه عن أداء دوره، واستثمار هذا الشلل في خلق المناخ الذي يديم لسدنة الثقافة السائدة فرص الاستمرار في امتيازاتهم.
ويجري الحديث من جانب البعض، على نحو ملتبس وغير منصف، عن غياب لدور المثقفين. ونحن نعلم أنه كلما انحازت الثقافة الى جديد ضد قديم، والى حلم ونور ضد خنوع وظلام، واجه المثقفون، الساعون الى التغيير الاجتماعي، استبداد السلطة الساعية الى تأبيد الراهن.
ان مقاومة الاستبداد والكفاح من أجل الحرية والعدالة يقترنان بدور المثقفين التنويري، ومشاركتهم في أحداث عصرهم، وتعبيرهم عن معاناة شعوبهم وأشواقها. ويجسد تاريخ المثقفين العراقيين هذه الحقيقة الساطعة. فدورهم الريادي في التحول والتجديد معروف قديماً وحديثاً. وبقدر ما أصابتهم المحن والمآسي، فانهم حققوا مجد تنوير الناس، وتجسيد قيم الجمال والابداع. ولو استعاد المرء صفحات من تاريخ مثقفي بلادنا- اتركوا الصفحات المشرقة في التاريخ القديم للبلد الذي ظهرت فيه أولى الحروف وأولى القصائد والملاحم وأولى الشرائع - لعرف حقيقة الدور الذي مارسوه. وليست معارك عشرينات القرن الماضي الفكرية، ومعارك العقود التي تلتها سوى جزء من حقيقة الدور التنويري والريادي للمثقفين.
غير أننا، على خلاف فترات سابقة، سواء في التاريخ القديم أو الحديث، نرى "غياباً"، في الظروف الراهنة التي أعقبت انهيار الدكتاتورية الفاشية، لدور المثقفين في تقرير مصائر ومستقبل البلاد، وهو أمر يرتقي، من ناحية، الى مصاف المأساة، ويعكس، من ناحية أخرى، الخلل في العلاقة بين السياسيين والمثقفين.
فما الذي أصاب المثقفين ؟ هل هي آثار كارثة ما تزال مستمرة: تدمير الدكتاتورية للثقافة والمثقفين.. يأس المثقفين من السياسيين وفقدانهم الثقة بهم.. الاستمرارية في الموقف السلبي الناجم عن الخراب والخوف.. عدم توفر الحوافز التي تدفع المثقفين الى اتخاذ مواقف فاعلة رغم الخلاص من كابوس الاستبداد.. استياء المثقفين الحقيقيين من نهّازي الفرص الذين ملأوا مشهد الثقافة الجديد السائب والغائم، وقطفهم ثمارا ً ما أنضجتها إلا معاناة الثقافة والمثقفين المريرة على أيدي ناشري ثقافة الابتذال والخنوع والاعلام، وبينهم نفر غير قليل من أولئك المتلونين في كل أوان.. عجز القوى السياسية في ظروف الاحتلال المباشر وغير المباشر عن تحريك الأجواء وتنشيط المثقفين.. أم أننا نبالغ، بمعنى ما، بالدور الذي يمكن أن يلعبه المثقفون في عملية التغيير ؟
هل هناك أسباب أخرى تدعو الى هذا الغياب الفاجع خصوصاً في ظرف تشهد فيه البلاد منعطفا تاريخياً لا يمكن أن يؤدي الى تحقيق آمال الناس ما لم يساهم فيه المثقفون على مختلف الصعد، وبينها بل وأخطرها الصعيد الروحي ؟
واذا كان صمت بعض المثقفين يعبر عن استنكاف من الابتذال بكل أشكاله واحتجاج على انحدار القيم وعدم توافق مع حقائق الراهن، فان هذا لا يبرر للمثقف اتخاذ مواقف العزلة السلبية عما يجري من تطورات في مجتمعه، بل على العكس من ذلك يتعين عليه ممارسة دوره التنويري المنتظر في التصدي للتزييف والتهريج والتهميش، وفضح ثقافة الاعلام الزائفة والتصورات الشعبوية المبتذلة في فهم دور المثقف وخصوصيته، واستخدام الثقافة وسيلة للآيديولوجيا، وتزييف الوعي وتشويه التاريخ والواقع وشخصيات البشر وأخلاقهم ومطامحهم.
على أن المثقف يجب أن لا يُترك وهو ينسحق تحت وطأة الاحساس باليأس والعزلة، وطاحونة اللهاث وراء لقمة العيش، أو يكون ضحية لاستنزاف العمل اليومي الذي يستهلك الطاقة الابداعية، أو ينغمر في الهموم الشخصية، حيث لا تتوفر له أدنى شروط الابداع، فضلاً عن مصاعب أخرى على أكثر من صعيد.
ولكي نفهم الدور الاجتماعي الفعال الذي تلعبه الثقافة الروحية، خلال الفترات الحاسمة، من الهام أن ندرك أن الثقافة لا تحددها العوامل الاجتماعية حسب، بل مواجهتها لهذه العوامل، ومقاومتها التبدل الاجتماعي، خصوصاً حين تكون العلاقات الاجتماعية غريبة عن الانسان وتقاومه كقوة تقف فوقه.
ويقدم التطور التاريخي والثقافي خلال العقود الأربعة الماضية، وخصوصاً الأخيرين منها، دليلاً مدهشاً ليس فقط على مقاومة الثقافة للنظام الفاشي وفكر الاستبداد، وإنما أيضاً دليلاً على الثقافة التي تنحط تحت تأثير سلطة الاستبداد.

تجليات أزمة الثقافة

ليس من غير الدقيق القول إننا نواجه أزمة ثقافية (وهي، بالطبع، جزء من الأزمة الاجتماعية) يمكننا إضاءة بعض عناصرها وسماتها، فنشير الى:
- "غياب" (هو، في الجوهر، تغييب) لدور المثقفين يعكس الخلل في موقف النخب السياسية من المثقف وابداعه.
- غياب الدعم الحقيقي من جانب الدولة ومؤسساتها للنتاج الابداعي، وتخلي الدولة عن مسؤوليتها في انشاء البنى التحتية للثقافة وتوفير شروط ازدهارها.
- عواقب الدكتاتورية وحروبها واستبدادها، وآثار الاحتلال وسياساته المتخبطة والفوضى التي خلقها، ويأس المثقفين من السياسيين الذين لا تحتل الثقافة مكانتها اللائقة في أنماط تفكيرهم وبرامجهم.
- شيوع الخراب الروحي واستمرار انهيار البنى التحتية، وعواقب ثقافة الارهاب والعنف، والعودة الى أشكال العلاقات الاجتماعية المتخلفة.
- معاناة المثقفين من تأثير ثقافة الاعلام واحساس المثقفين بالتهميش على يد الحكام المتنفذين واستمرار نظرتهم الأحادية التبسيطية للثقافة الابداعية وتصوراتهم الشعبوية المبتذلة في فهم دور المثقف وخصوصيته.
- انسحاق المثقف تحت وطأة الاحساس بالاحباط والعزلة وطاحونة اللهاث وراء العيش على نحو يستنزف طاقته الابداعية.

في أتون المعركة

غير أنه في سياق الحراك الاجتماعي بوسعنا أن نميز مشاركة واضحة ومتسعة للمثقفين، فهم الآن في صدارة المشهد وقلب الحدث. وقد "ذاب" ما كان يدعى "تعارض السياسي والثقافي" الى حد ما.
نجد في الحركة الاحتجاجية ملامح اجابات على بعض الأسئلة الملحة. كيف يمكن أن ينعكس الهم الحقيقي للناس، وهو ذو علاقة بالهوية الاجتماعية لا الجزئية أو الفرعية، في الموقف السياسي والاجتماعي للمثقف وابداعه الجمالي ؟ هل يرصد المثقف هذه الظواهر، وهو الذي يتقدم في الحس والتنبؤ بالقضايا الكبرى؟ أم أن المثقفين مازالوا في أبراج عاجية، منعزلين، يائسين، محبطين ؟ ملامح الجواب على هذا بدأت تتضح. ومشاركة المثقفين في الحراك مثال ساطع على خوضهم الصراع الاجتماعي وتصدرهم مشهد الاحتجاج.
ولا ريب أن من بين أهم سمات الحركة الاحتجاجية الجديدة تبرز سمة انخراط النخب الثقافية في هذه الحركة بقوة وبفاعلية ملحوظة، والمسعى الحثيث لهذه النخب لترشيد الظاهرة الاحتجاجية والمشاركة النشيطة في بلورة شعاراتها وتدقيق مطالبها، وإشاعة الوعي الاجتماعي بأهمية الاصلاح وضرورته، وفضح مواقف الجماعات المتطرفة والقوى المتضررة من الاصلاحات الضرورية.
الاصلاح الثقافي

وهناك، بالطبع، صلة عميقة بين موضوعة الاصلاح الثقافي ودور المثقفين في التغيير. وقد تضمنت (ورقة الاصلاح الثقافي) الصادرة عن الحزب الشيوعي العراقي عام 2017 الكثير من التحليلات والاضاءات العميقة لموضوعة الاصلاح الثقافي، ومستلزماته، والغاية منه، ودور المؤسسات المختلفة، الحكومية والمدنية، في هذه العملية. وحسبنا أن نحيل القاري، والمثقف المعني، الى هذه الوثيقة الوجيزة الهامة.
والاصلاح، الذي يختلف عن التغيير الجذري، هو، في جانب منه، مفهوم فكري، ومن هنا تباين دلالاته وتفسيراته. غير أنه مرتبط بطائفة من الاجراءات ضد التخلف والفساد والظلم.
وبستند الاصلاح، باعتباره قضية مجتمعية، الى وجود قوى اجتماعية تسعى الى تغيير الوضع القائم بصورة سلمية، في سياق برنامج شامل وخارطة طريق وآليات عملية.
وفي ما يخص الاصلاح الثقافي، يرتبط الامر، كما أكدت (ورقة الاصلاح الثقافي) بتوفير مستلزمات بينها إعادة إعمار البنى التحتية للثقافة، وتأمين شروط نهوض ثقافي وفق خطة ستراتيجية تعتمد الكفاءات والآليات السليمة، وتعزيز دور الدولة في هذه العملية، وتنمية الوعي الثقافي، وضمان حرية التعبير، والتنسيق بين منظمات المجتمع المدني الثقافية ومؤسسات الدولة المعنية، بما يضمن ازدهار الثقافة الوطنية وثمار الابداع وحقوق منتجيه .
ان الغاية من الاصلاح الثقافي في حالتنا العراقية هي اعادة الاعتبار الى الثقافة كجزء أساسي من حياة الناس، ومصدر لا ينضب لمتعتهم وفائدتهم، وحاجة لا غنى لهم عنها، وذلك من خلال توفير شروط نموها وتطورها بحيث تفعل فعلها في المجتمع والدولة ومؤسساتها المعنية بالثقافة، فضلا عن منظمات المثقفين والمنابر الأهلية ومؤسسات الاعلام.
ومن نافل القول، أخيراً، إن موضوعة المثقفين والتغيير ترتبط ارتباطاً وثيقاً بموضوعة الانتخابات، التي تتصاعد الاستعدادات لاجرائها، ويسعى المدنيون، وبينهم المثقفون التنويريون، الى ممارسة دورهم المنشود فيها. وسيكون هذا، أي (المثقفون والانتخابات)، موضوع مقالنا خلال الأيام القريبة المقبلة.
* * *
تتكامل عناصر الأزمة الاجتماعية المتفاقمة، ويغدو جلياً أن لا مخرج من النفق المظلم الا عبر تغيير ميزان القوى السياسي والاجتماعي. وهذه العناصر تؤكد، مرة إثر أخرى، بأن النظام السياسي الراهن عاجز عن تقديم الحلول للمعضلات المعقدة والعميقة، التي يعاني منها الملايين، وانقاذ البلاد من محنتها المروعة ..
لا سبيل الى ذلك سوى التغيير .. وهنا، على وجه التحديد، يتجلى الدور الفاعل والبارز للمثقفين ..
لابد أن تعاظم السخط يشكل مقدمة أساسية للسعي الى لاصلاح والتغيير، ولابد أن تستثمر قوى التغيير هذا السخط، وتحوله الى قوة فاعلة في عملية التغيير، وتبرع في ادارة الصراع. ولا ريب أن للمثقفين دورهم المتميز في هذه العملية، من خلال تقديم المثال الملهم أمام الناس، واشاعة الوعي الاجتماعي التنويري في صفوفهم ..
على المثقف أن يضيء هذا السخط المتراكم، ويطلق شرارته، ويحوله الى فعل اقتحامي واعٍ، وسعي الى الخلاص من راهن يؤبده النظام القديم، المستقتل لحماية نفسه وإدامة بقائه، ولامتيازات حرسه والمنتفعين ..
وعلى المثقفين أن يعرفوا كيف يشعرون باقتراب الأمل، بل كيف يساهمون بتقريبه في مراحل "الركود الكئيب"، في أهدأ المراحل، وكما يبدو في أكثرها "عذوبة وسذاجة" حسب تعبير ماركس ..
كأن ضفاف الأمل تقترب الى المثقفين، وهم يمضون بالحلم، ويغذّون السير، كتفاً الى كتف، مع سائر الطامحين الى التغيير، صوب الغايات الساميات ..
والمثقف الحقيقي يمضي، متحدياً، رافضاً الخنوع لأغلال الاستبداد، في أتون المعارك الفكرية والاجتماعية .. ينهل من الينابيع، ويجسد القيم السامية، ويرفع رايات الأمل، ويشعل المصابيح التي تنير طريق الملايين من المتعطشين الى التغيير ..
والمثقف الحقيقي هو من يوقظ الأسئلة الحارقة للرياح التي تعصف برماد الراهن، الذي يراد تأبيده، حتى تنهض جمرة الكفاح في قلوب الثائرين ..
آن لهذه البلاد المفجوعة، والآملة، منذ آلاف السنين، أن تجد سبيلاً الى الحياة الجديرة بأبنائها الخلّص، الذين ما انفكوا يقرعون الأجراس في مواكب الساعين نحو التغيير ..
أصوات المثقفين الحقيقيين، التي تتعالى في مواكب الاقتحام، هي بداية الرد البليغ على من يدّعون "غياب" دورهم، وهي الرسالة الملهمة على أنهم حمَلة مشاعل التنوير ..
إنهم السائرون .. والى تلك الضفاف ماضون برفقة الرايات والينابيع، أرقاء ومتعدلين مثل أشرعة !

عرض مقالات: