كان  مظفر النواب يعلم تمام العلم : أن (الحكم ) و (الحكيم) و (الحاكم)  هي ثلاثة كلمات متقاربة الحروف ، تنطلق من معنى واحد .

القالب السياسي – الاجتماعي المتربي عليه، منذ طفولته العائلية و شبابه  بالحزب الشيوعي ، جعلاه مالكاً ثقافةً من دون غضب ، ثقافة البدائل و تأملها ، ثقافة الفاعلية البشرية ، المستقبلية.  

بعد سماعهِ حكاية عشق لم تكتمل ، على كرسيٍ في فاركَون بقطارِ الليل ، قطار الآهات ..  اختار وسيلةً من وسائلِ كبحِ مهانةِ النفس لوقفِ  (إقصاء  قلب عشيقة ام شامات) و تمكينها في صراعِها معَ مَنْ تعشق ،  الى انجازِ (عمليةٍ شعريةٍ) ، أي إلى صنعِ  قصيدة  متكاملةٍ او قريبةً من التكاملِ،  لكشفِ ابعادِ  (العلاقةِ) و (الصراع) بين (الحكم) و (الحاكم) ،  من خلال لعبة (الحكيم) و مستوى قدراتهِ بمجازفاتٍ، حكيمةٍ أو غير حكيمةٍ ،   تحوّل الشعر ، هنا ، الى قوةٍ داخليةٍ لإعادة احترام (امرأة أم شامات) ،  جعلتها القصيدة جديرة  بالاحترام ، مثل كل النساء الأخريات.  

مظفر النواب لم يعنّف أحداً من طرفي الحب ،

 لم يقسو ، عاطفياً،  على أيِ طرفٍ من الطرفين العاشقين ،

 لم يستخدم عصا الغضب في عمليةِ ردعٍ شعريةٍ،

أقول: أنني ما وجدتُ أية صفةٍ من هذه الصفات في سلوكيةِ مظفر النواب بأيةِ فترةٍ من فترات عمره ، حتى أولئك الحكام العراقيين و العرب ، الذين يريد و يرغب و يناضل من اجل  تقويضِ دعائمِ حكمهم من اساسياته لم يخضعهم لكلماتٍ شاتمةٍ،  بل اخضعها الى معيارٍ أخلاقيٍ تربّى عليه . كنتُ كثيراً ما أجد في نفسي ، من دون شعور او تخطيط ، انني انسجم مع نفسي .. كنتُ انعش نفسي واجعلها في حالةٍ من حالاتِ متابعةِ السلوكية، اليومية ، المظفرية ، وحساسياته الشعرية ،  في اثناء الحوار الثقافي – الادبي – السياسي مع أصحابه .. كان قليلُ الكلامِ بصفةٍ عامةٍ،  لا يعرف أي شكل من اشكال الوهم و الايهام ولا  المكر و التماكر  . في اثناء الحوار لا يقصي أحداً و لا يمنع أحداً من الإدلاء بأيةِ مقولةٍ.  لا يستحوذ عليه أي موقف من مواقف العنف في اثناء المحاورة مع الآخر..  كان في  ساعته السيكولوجية  قدرة ضبطٍ ذاتية لجميع أنواع الانفعالات .. ليس عنده أي مفهوم من مفاهيم استحواذ  او تهديد او تجبر  .

 كان سلوكه الشعري و السياسي يستند الى الاعجاب و تأييد نظرية  الفيلسوف العربي (أبو الوليد ابن رشد) في نقد الجمع بين السلطتين ، الزمنية و الدينية،  في قصرٍ حكوميٍ    واحدٍ . ما وجدتُ لديه عداوةً لأحدٍ من أصحابه في الكاظمية و بغداد وزملائه في الكلية الجامعية ،  التي دَرَسَ فيها  و في  المدرسةِ،  التي درّس فيها وفي ميادين  الشعر و الادب ، التي تحاور ، كثيراً،  فيها  مع رفاقهِ في الحزبِ الشيوعي ، حيث الاختلاف الفكري كان كثيراً و المحرضين عليهِ كانوا كثاراً، أيضا.  علاقاته ، جميعها،  ليست غريزية ، بل كانت متعتها لديه انه ينظّم مواقفه ،كلها ، على أساس (الوقائع العقلية) و تقريبها من الوعي الماركسي . كان هذا الوعي مفهوماً مركزياً  بجوهرِ نقاشاتِه. 

عليك ان تفهم : أن كل نقاشٍ مع مظفر، ليس شخصياً، انما هو ، بالأساس ، نقاش بين بين الوعي و اللاوعي ، بين الغرائز السياسية المتصارعة..  بينما كان يقف ، دائماً،  مع (الأفكار النظرية) ، المتفاعلة مع المجتمع و الحياة.  حتى في حوار قصيدته الشعبية (الريل و حمد) استخدم اقصى جهوده الحوارية ، لكي يصيغ ردود فعل إنسانية – اجتماعية في العلاقة بين (عاشقيّ ام شامات) وهي قرية صغيرة نائية تستبطن حماية العلاقات الإنسانية في منطقة سكانية ،  خالية من تأثير الرموز و الاساطير و الاخلاق الثقافية ،عموماً .

 لم يحاول ، سوى انقاذ المرأة من شعور سلبيٍّ قد ينتابها،   باعتبارها انسانة من الدرجة الثانية بعد فقدان حبيبها . ظلّ في ممراتهِ الشعرية، كافة،  محاولاً التفاعل بين موهبته الذاتية و بيئته السياسية ، محاولاً ان يكون على مستوى وعيٍ  مرتفعٍ في معرفة الصلة المعلوماتية بين (الحكم) و (الحاكم)  و (الحكيم) لأنها نمط سلوكي ورغبة إنسانية ، منذ الطفولة مستمرة الى الكبر و الشيخوخة و الهرم لدى كثير من الناس .

هي ثلاث ملتقيات و ثلاث ايماءات و ثلاث حركات ..

كل كلمة  من هذه الكلمات الثلاث  جرى و يجري حولها و بشأنها ، بجميع محافلها تيار جارف ، من النقاش ..

قيل ان الكلمات الثلاث هي من صفات الله رب العالمين ، مما يعيد (الحكم) ، أولاً و أخيراً،  الى الله ،  حسب التعاليم السماوية الرئيسية الثلاثة.

قيل ان أسماء الله الثلاثة هي (الحكم)  و (الحكيم) و (الحاكم) بمعنى القاضي او هو الفعيل الفاعل ، القدر لكل شيء او هو الذي يحكم بين الأشياء و يتقنها و يقرر موقف الناس حولها.

قيل ان الله هو الحكيم ذو الحكمة.  

الحكمة عبارة عن افضل الأشياء يمكن الوصول اليها بواسطة افضل أنواع المعرفة

و العلوم .

يقال لمن يحسن دقائق الصنع و الصناعات و يتقنها أنه :(حكيم)..

الحكيم بمعنى ان يكون الحاكم مثالاً ، قديرً، قادراً، او عليماً ،عالماً..  أي ان (الحكم) و (الحاكم) جاءا من العلم و العليم و العالِم..  كما أن كل ما يعاكس معاني هذه الكلمات الثلاث ليس مقرراً  بصفات الله وليس معترفاً  بحنكته واحكامه.  

قال شاعرٌ عربيٌ قديمٌ :

               وابغض بغيضك بغضاً رويداً

                                    إذا انتَ حاولتَ أن تحكما

أي إذا حاولت ان تكون حكيماً.  كما هو معروف فأن  (الحكم) هو  : العلم و الفقه .

كل شاعر قدير من الشعراء القدماء و الجدد يعرف ان في الشعرِ مكانةَ ممتازةً و دوراً مرموقاً في تنصيب او اسقاط (الحكّام) و (الحكومات) و جميع الناس (الحاكمين) في المدن الصغيرة و البلديات و القرى ،  سواء (الظالمين) او (العادلين)  لأن جميع أنواع الحكم و الحكومات و الحكام و الاحكام تحتاج الى كمٍ هائلٍ من المعرفة،  التي ينتفع منها الناس العادلون و غير العادلين،  الظالمون و غير الظالمين . تحتاج من الشعر ان ينتفع بأقوال الناس اجمعين .. كما ينتفع الناس ، كلهم،  من أقوال الشعراء و حكمهم و احكامهم و علمهم و فقههم و مواعظهم و امثالهم ، ثم من اصدار القضاء العادل ، قراراته الخاصة ، حول  أي شأنٍ من شؤون الناس،  حتى الخلفاء الراشدون كانوا بحاجةٍ الى الشعر و  الشعراء ، حتى المهاجرون و الأنصار وفقهاء صحابة الأنبياء موسى و عيسى و محمد كانوا رجالاً حكماء،  لكنهم بحاجةٍ  الى الشعر و الشعراء .

قلتُ و نبهتُ الى كل ما تقدّم ذكره لأنني اريد السؤال :

هل استطاع الشاعر مظفر النواب ان يصدر حكماً عادلاً بقصيدة (الريل)..؟

هل كان قريبا من حكم الله و كتبه السماوية التوراة و الانجيل و القرآن..؟

هل كان بما قاله قريباً من الأنبياء والحكماء او الحاكمين..؟

هل كان قريباً من آيات (الذكر الحكيم)..؟

هل كان متشابهاً مع اقوال العادلين من الناس لمنع الظالم المعشوق ، هنا ، في هذه الحالة، ليكون منصفاً للمرأة العاشقة ..؟ هل أحكم الشاعر مظفر  النواب في جميع نواحي احكام قصيدته..؟ هل تشاركَ بأسلوبٍ من أساليبِ زملائِه الشعراء منذ (الجاهلية) حتى قرن النور و التنوير في القرن العشرين و من أصحاب الشاعر  الاعشى،   حتى الخليفة الراشد الرابع..؟  هل كان مظفر النواب  محتكما معتدلا ام انه نظر الى المخاصمة بين العشيقين مثل نظرته الى سيفين متصارعين ..؟

لم يأمر مظفر النواب أي احد بان يصدر حكماً في قضية (الريل و حمد) و حبيبته المقتالة من اجل الحب و صفاء الحب ، حين اسمعته مطالعةَ تقلباتِ حبَها بتقلباتِ حبيبِها ، مع سهرةِ نجومِ ليلةٍ من ليالي القطار المار بقريةِ ام شامات   .

حَكَتْ له ، قضية ضميرها ،  باعتباره رجلاً من الرجال العقلانيين  و ليس حاكماً من الحكام السفيهين .  وجدَتَه رجلاً بعينين متدفقتين بعاطفة صادقة ، رجلاً يملك ضمير شاعرٍ  و لغةَ شاعرٍ و مقتالَ شاعرٍ و احتكامَ شاعرٍ،  لذلك جاءت قصيدة (الريل و حمد) ً اعترافاً صامتاً عن  السيكولوجيا المعتمدة في اغلب حواراته الأدبية و السياسية . كانت بعيدة ،تماماً ، عن استخدام (سيكولوجيا الخوف) أو (سيكولوجيا التخويف) او ( سيكولوجيا إلأنا) من اي شكل كان من هذه السيكولوجيات  و بأي مستوى من مستويات اخلاق القوة  .

لا تنفتح أية صفحة من صفحات حوارات مظفر النواب  مع الآخرين إلّا باللونِ الأبيضِ فحسب. بمعنى أنه لا يندفع نحو استخدام صفحات ذات ألوان  انفعالية او تهديدية او صاخبة ،  حتى حينما يشعر ان أمور الآخر المقابل له بالحوار يمكن ان تتفتح و ان تنمو متماسكة  اكثر من حالة انفتاح او نمو افكاره الشخصية . يظل نموذجاً ثقافياً ، هادئاً، كأنه فارس شهم من مثقفي دولة اليونان القديمة او مناضل شهم من ازمنة النضال الفلاحي ضد الاقطاعيين بأرياف العمارة . كنتُ اجده إنساناً تكنوقراطياً يتمتع بمواهب عديدة . منها انه بعيد ، كل البعد ، عن تقمص أصول آبائه و اجداده الرأسماليين القدامى ، التي قد تفسد عليه الممارسة التكنوقراطية او ربما تخرّب في ذهنِهِ نوعية الشخصية الشيوعية الجيدة ، التي دعا اليها زعيم الحزب الشيوعي السوفييتي ، غير الجيد ، المدعو جوزيف ستالين .. ربما هي صورة من صور تحويل عضو الحزب الشيوعي بالدولة السوفييتية الى(  روبوت) تنفيذي ، ليس غير. 

أظن و من المحتمل ان يكون ظني ليس إثماً ، هنا ، في حديثي القائل ان صدر مظفر النواب مليء بعواطف الشاعر و الشعر ، لكنه يخلو ، تماماً،  من كل شكل من أشكال (الحقد ) الا على الحكام الظالمين . ليس في الحقد على الظالمين اي اثم ،  لأن قلب الله على سعته لا يعتبره إثماً ، لأنه  يعتبر الحاكم الظالم عدواً له و قد اظهر الزمان ، كله،  نماذج كثيرة من عداوة الله للحكام الظالمين. انه يدعو أنبياءه و أصفيائه الى عدم الاختلاط بهم و إغلاق جميع صفحاتهم ، حتى لا يكتب فيها ،  نوعاً من صفو الكلام ، عنهم او عن هيئاتهم المالية لبعض من يظن بصدق اقوالهم و هم كاذبون. لذلك لا تجد اي اختلاط بين سفاهة  الحكام الملكيين او الجمهوريين البعثيين مع اي موضع من مواضع أفكار و أشعار مظفر النواب. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

يتبع

عرض مقالات: