مازلت أعتقد أن اللجوء للترميز في الكتابة هو نوع من أنواع الضغوطات النفسية لدى الكاتب، أو من مخلفات عقد الخوف والاضطهاد والقمع الذي مارسته وتمارسه عليه الأنظمة والأعراف والتقاليد ومنظومة المحظورات العتيدة التي تربينا عليها جمعياً في فترة من الفترات، وقد تدفع تلك العقدة بالبعض للتطرف في استغلال أجواء الحريّة حالما تتوفر له، بسبب الفرار أو الانتقال للعيش في الغرب.
ولا أدري لِمَ يلجأ البعض للترميز في الوقت الذي تتوفر لدية الحريّة لقول ما يشاء. فالرواية على سبيل المثال، لا تحتمل الترميز، لأنه يصادر عفويتها التي تُعد شرطاً مهماً من شروط الإبداع البحت، ومازلت أذكر بعض العبارات أو التوصيفات التي كانت تعجّ بها بعض روايات ستينات القرن العشرين كرمزية للتحايل على حظر تناول موضوعة الجنس على سبيل المثال، أو انتقاد الحكّام أو الدين وما شابه، عبارات من مثل “فشعر بقطيع من الخيول يجري في عروقه والدماء تتفجّر على صخرته”، في وصف العملية الجنسية، أو “نجح أهل الحي أخيراً في القضاء على عمّ زيدان، صاحب الدكّان الذي طالما امتص دماءهم”، في التعبير عن التخلص من السلطة الغاشمة، وهكذا، مثل هذه الرموز أصبحت غير مناسبة في عصرنا الحالي ولا تخدم تلقائية السرد وصدقيته.
فالرواية، من وجهة نظر الكثير من النقّاد يجب أن تكون فادحة في صراحتها وتتجه لأهدافها مباشرة من دون أن تثقل على القارئ بالرموز والإحالات وتشغله في عملية تفكيكها أو حلّها وتُدخله في متاهات مُعقّدة. لكن في المقابل فهم البعض من الكتّاب، لا سيما هؤلاء الذين يعيشون في الغرب، قضية الحريّة على أنّها تمرّد من نوع ما ومحاولة لسدّ النقص والتعويض عن مراحل القمع والإرهاب الفكري الذي مارسته عليهم الأنظمة في السابق، فراحوا يتمادون في وصف العملية الجنسية على سبيل المثال بطريقة مكشوفة تثير الاشمئزاز في النفوس، واختفت عندهم الحدود بين الفعل الروائي الإبداعي والمستلهم للمشاعر والعلاقات الإنسانية، والإيروتيكية.
وطالما أن الرواية كالحياة تماماً وهي انعكاس صادق لها، فلا يمكن تخيّل حياة كاملة من دون جنس، إلّا أن قضية الإيغال في وصف تفصيلات العملية الجنسية كما لو كانت مشهداً إيروتيكياً مبتذلاً قد تسيء للعمل كله وقد تدفع القارئ للاشمئزاز بدل التفاعل مع عملية القراءة.
إن عملية تجسيد العلاقات الجنسية بشكل فاضح، قد يفقدها خصوصيتها الإنسانية، كما أن المشهد الإيحائي للممارسة الجنسية قد يكون أكثر إثارة وتأثيراً على المتلقي من الوصف الإيروتيكي الفاضح، وقد يعد البعض الإيغال في وصف الممارسة الجنسية في الرواية أو في الأدب بشكل عام نوعاً من أنواع التعبير عن الحريّة المطلقة والتمرد ومحاولة إثبات الذات، أو ادعاء الفحولة والدونكيشوتية إن جاز التعبير، وقد تستهوي مثل تلك التوصيفات شريحة معيّنة من القرّاء المقموعين جنسياً أو الذين يعانون من الكبت والحرمان، لكنّها في المحصّلة قد تؤدي إلى تبديد قدسية العلاقة الإنسانية الخاصّة جداً بين الرجل والمرأة من جهة، وتسقط النص في ابتذال غير مبرر في أحسن الأحوال من جهة ثانية.
ولا يعني هذا اللجوء إلى الترميز السطحي المباشر الذي تحدثت عنه في بداية المقالة، لكن على الكاتب أن يدرك تماماً معنى العلاقة بين المرأة والرجل وطبيعتها وقدرة الإيحاء الساحقة في التأثير على القارئ، إلّا في حالة سعي الكاتب نفسه لكتابة رواية إيروتيكية بالأساس، وفي هذه الحالة قد نجد له العذر بشكل أو بآخر، لكنه في جميع الأحوال سيفقد شرط التلقائية في كتابته.