الدهشة، تلك الظاهرة النفسية التي كانت تشكل هيمنة معرفية بالنسبة للقاص عبد الرزاق دحنون وهو يحاول الدخول إلى واسع المجال في توظيف الموروث في النص الإبداعي. شأنه شأن من سبقوه وجايلوه. وفي مثل هذا المسعى يهمنا نقدياً الكيفية التي يتعامل بها الكاتب مع محصلته المعرفية. من هنا نجد أنه وكما يظهر في التصدير للنصين القصصيين. أول هذا التصدير هو جملة (قصتان من بلاد سومر). و(من) غير (عن)، فالأُولى: تعني نقل النصوص من متن مدوّن وموثق عن لقيا من الطين كما اعتاد الأولون، والثاني: يعني تأليف نصوص عن ذلك الزمان. فالأول وكما نراه وضعنا في نقطة الإيهام، بين أن تكون منقولة أو أن تكون مؤلفة. وهذا يُحسب لصالح جهد الكاتب. وما يرفد هذا عبارته الأخيرة من التصدير التاريخي القائلة (وها نحن بعد خمسة آلاف سنة من زمن شيوع هذه القصص والحكايات والأمثال نستعير مشحوفاً سومرياً صُنع من قصب وقار بأيدي أحفاد أهل سومر في الأهوار جنوب وادي الرافدين. نبحر في رحلة نأمل أن تكون ممتعة في ضفاف النهرين العظيمين دجلة والفرات. نلتقط الحكايات من منابتها، قبل أن تغيب هي الأُخرى في ضباب كثيف ونقدمها لأهل هذا الزمان). وهذا لا يأتي إلا بعد أن يُقدم الكاتب تصديراً تاريخياً موجزاً عن تطور الحياة منذ العصور الأُولى. فهو بهذا يستند إلى متن معرفي، خاض فيه بحثاً وتقصياً من أجل أن يستل الحكايات من جهة، ويتمثل سرداً طبيعة المسرود المراوح بين مستويين من التعبير. ونقول أنه لم يستلها حرفياً، بقدر ما ماثل كينونتها، ولم يبتعد عن فضاءاتها. وفي الوقت نفسه لم يتركها سجينة الماضي، بل حررها لتكون شاهد عصر بروية ورؤية قصصية محفوفة بمبنى فكري واضح. والذي نستخلصه قبل الخوض في النصوص عبر وجهة نظر نقدية، حيث نجد في نصوصه ابتكاراً كاملاً لنصوص افترضناً أن يكون الكاتب قد اطلع عليها. بمعنى خلّص نصه من التكرار، مستحدثاً حكايات لا تبتعد عن واقع سومري، خليط بين الزراعي والرعوي. مجتمع يمارس عمله في الأرض، ويبني عمارته ابتداء من الطين والقصب، وصولاً إلى استخدام الحجر، ومن بعد ذلك يُشيّد حضارة شهدت لها بلاد سومر كبناء الزقورات والمعابد، وأكثرها أهمية اختراع الكتابة وتطورها من (المسمارية، السومرية، الحروفية). هذا التطور شهد تأثيراته على البشرية عامة. من هذا المتن يؤسس عبد الرزاق دحنون نصوصه، وهو كما أفترض ــ حيث لم أقراً له غير هذه النصوص ــ أرى أنه مارس الكتابة في هذا اللون باقتدار، إذ جاء إلى حقلها وهو محمّل بالمعرفة. أي أنه أتاها بقوة معرفية تشهد لها نصوصه.
أحلام الجداء...والحكمة الأزلية
خلال هذا النص يوفر الكاتب درجة من الحكمة. فالقول الذي وضعه تصديراً بمقولة تكشف عن حراك النص ومعناه، وتضع سمة من الحكمة في ما تأتي بها الأفعال، مهما كان نوعها والحكمة تقول :(عندما يذبح القصاب الجدي يقول له: أيجب أن تزعق، هذا هو الطريق الذي سلكه أبوك وأُمك، وأنت تسلكه. ورغم ذلك تزعق) "مثل سومري ". أي أنه لخص النص ونقل فقرة من متنه، وأحاله إلى متن قديم. وبهذا استكمل دورة النص. لكن الدلالة ظهرت من العتبة الأولى والمثل. فهي تحافظ على دلالتها المعاصرة. إذ أن الاستغراب من الجدي غير مبرر، ما دام الأب والأُم قد مرا بهذا الطريق، وهو النحر المفروض كتكوين وجودي في الحياة الجارية منذ الأزل. فوجود الجدي يتوجب أن يخضع لشريعة الإله. بمعنى أن العلّة المزمنة في واقعنا ملازمة، فلا حد للنحر، فجميع الرقاب مهيأة للذبح. فلا غرابة ولا دهشة في ما نقرأ ونرى ونشهد. هذا ما يوحي به المعنى العميق في النص، سواء عبر المثل المقتضب، أو من سيرة الجدي الذي يقع فريسة لأسد الغابة، وكما وقع التوأم الذي وقع في يد الصياد بضربة سهم، ثم ينحره ويسلخ جلده، ويحمل لحمه في سلة مصنوعة من البردي. هذه الحكاية، وإن كانت عن عالم الحيوان، كما رواها الكاتب من متنها السومري، أو افترضها كذلك بحبكته وحكمته السردية، إلا أنها سايرت كل الحكايات في العصور والأزمنة التي عانت من جور الإنسان على يد أخيه الإنسان
ان عتبة السرد في افتتاح النص، نقل فعل وفعالية الملك (أُور نمّو) وهو يعمل مع عمال البناء، كي يساهم في بناء زقورة أُور ومعبدها. وهذا الاستهلال، يضمر معنى عميقا أيضاً له علاقة بنحر الجدي. أي أن المشهدين يوحيان بسمة التناقض بين سياسة الملك وسيرته، وبين فعل الإنسان وظلمه. فعوامل الظلم مترسبة في ذواتنا، وما نحن إلا خالقين لنماذج التاريخ المنحرفة عن جادّة طريق توفير السلام والرخاء الاجتماعي. إذاً يعمل القاص إلى بذر ما يستطيع بذره من نقود بشأن ما جرى ويجري. أي الاستفادة من المعارف لتوثيق مشاهد الآني، وتشكيل موقف مبدئي ذاتي.ثم يواصل رحلته بوصف طبيعة المجتمع السومري المزيج من الرعوي والزراعي، لكي يصل إلى حكاية (أوتو) وعنزته البيضاء. والتوأم حديثي الولادة. لكنه أيضاً يقدم المشهد عبر طرح ظاهرة قبل مشهد الافتراس. وهي عبارة مهمة في تشكيل مشهد الوحشية والافتراس (ولكن هذه الأرض الطيبة سكنتها فجأة وحوش برؤوس آدمية أتت من تلك الدروب التي تتعثر فيها خطوات قطعان أغنام الرعاة). ولعل بحثها عن الجدي الآخر كشف لها عن وحشية ذوي الرؤوس الغرباء، حيث لاحظت (لكنه سكت فجأة لأن سهماً انطلق من قوس صياد من تلك الوحوش برؤوس آدمية فأصابه في مقتل) قالت العنزة (هذا العمل قبيح). وهي عبارة تضمر بلاغة صاعدة وناقدة. ثم يستيقظ الراعي، ويذهب للتأكد من وجود الجديين وأُمهما العنزة أم التراكي البيضاء.
هذه الحكاية أو القصة السومرية كما نفترض، استطاع القاص أن يخلق منها نصاً ذي دلالة معاصرة أولاً، ثم وضعنا عبر معالجته ضمن حقل الايهام بين أن يكون النص منقولا، أو مؤلفا بروح سومرية ثانياً. ونرى أنه وفّق في مجال اقناعنا بأنه نص موضوع من مخيلة القاص المفعمة بمعرفة مؤسسة لوجهة النظر واستحداث الكيفية التي يمكن التعبير من خلالها عن وجهة النظر، من دون أن يتخلص من البنية القديمة في الروي والسرد. وهذا مركز العمل في توظيف الموروث في النص. أي تقديمه برؤى وكيفية جديدة.
كيف كانت رسالة القرد؟
النص ينطلق من عتبته التي تؤكد على سر يكمن في متن القصة، إلا أن المثل السومري الذي أكد على أن (أريدو مدينة المجد والازدهار، ومع ذلك مازال قرد دار الموسيقى يبحث عن طعامه بين الفضلات)، تركت الأُم ابنها يرتمي على هامش الحياة من أجل البقاء والنيل المعرفي من عالم الموسيقى. غير أن المفارقة في النص، أن القرد لم يضعف ولم يُبدد حلمه الذي افتقده في أُور حيث مدرسة الموسيقى التي لم تضمه بين صفوفها لقباحة وجهه، كما ادّعوا. لذا كانت مدينة (أريدو) خير ملاذ له في تحقيق حلمه. وهو المثابر في جهده بسبب ما لاقاه من القائمين على مدرسة الموسيقى. هذه المداولات لا تنتمي إلى متعلق العقل والقدرة على إنمائه، على الرغم من كل معطلات الوجود وعثراته. لذا فالنص يصب خلال عرضه اختراق الناموس الذي ألفه الوجود. فالموهبة والقدرة والاصرار على الوصول الى ما يُحقق الهدف. لقد انطلق المفهوم العام للنص ليكون درساً في الوجود. أي مناسب للزمان والمكان. وبذلك استحق أن يكون نص الدفاع عن نصاعة الحياة عبر كفاح فردي أو جمعي. فالإحباط الذي حصل عليه القرد في أُور، استطاعت الأُم أن تُلحقه في مدرسة أريدو. لكن المأساة تبقى تواكب طبقات المجتمع المسلوبة الإرادة. فهي لا تحمل سوى الاصرار كسلاح، تماما كأسطورة (سيزيف) الذي لا يملك سوى اصراره على الصعود حاملاً الصخرة. إنه صراع فلسفي أزلي، استطاع القاص توظيفه على وفق أبسط القيّم الفنية والموضوعية. إنه في حقيقة الأمر ارتقى بنصه باتجاه البناء المحكم، والذي يقدم قناعات موضوعية، في كونه صالحا للتعبير عن الازمنة مهما بَعُدت أو تأخرت، فهو في خلاصة الأمر درس في الأخلاق الوجودية. ولعل درس التاريخ من أصعب الدروس تأثيراً، لأنه يضمر فلسفة وحكمة درج عليها الفكر الإنساني عبر مسيرته الطويلة، منذ الصراعات الأُولى في التاريخ.