تفتخر الأمم بمنجزاتها الإبداعية والفكرية وإسهامها في النتاج الإنساني للبشرية، وتحرص، حسب المنطق، على استثمار الفرص المتاحة للتعريف بهذا النتاج ونشره. ولعل معارض الكتاب العالمية المعروفة فرصة مهمة للترويج لهذه المنجزات، حتى وإن كانت متواضعة قياسًا بما ينجزه الأخرون، لكنّها تظل في المحصلة مصدر فخر واعتزاز بالنسبة للمشاعر الوطنية.
وتدرك الأمم حجم الترابط العضوي بين الأدب والإبداع عمومًا وبين النزعة الإنسانية كمنصة لمجموعة تلك الممارسات الرفيعة. لكن يبقى الأمر مختلفًا تمامًا بالنسبة لبلد مثل العراق، أضاع سياسيوه بوصلتهم الأخلاقية وبدد الإذعان للأجنبي كرامته الوطنية وحوّل أدوات التجهيل والنفاق الديني إلى منصة بديلة.
ففي العراق، حيث تحكم وتتحكم وتهيمن الأحزاب الإسلامية المرائية، يُفهم الفعل الثقافي والنشاط الإنساني فهمًا مختلفًا تمامًا، فهو من وجهة نظرهذه الأحزاب مطية لترويج خزعبلاتها وسبل الخداع الطقوسي التي تتبعها من اجل بقائها متحكمة بمصير البلاد، بعد أن تغيرت وظيفة الثقافة نتيجة لغياب الدولة متمثلة بوزارة الثقافة واضمحلالها امام تنامي هذا النفوذ.
لقد هالتني المشاركة الكثيفة للمؤسسات والدوائر والعتبات الدينية في معرض فرانكفورت الأخير بعناوينها الحصرية والطائفية الضيقة وباجنحة مستقلة، عارضة بضاعتها من الوهم المجلد بكتب انيقة وضخمة لكنها بمضامين ضحلة وغريبة أقل ما يقال عنها أنّها لا تنتمي للعصر الذي نعيش فيه، ناهيك عن صلتها بالشكل الحضاري والمعرفي لمعرض فرانكفورت للكتاب العالمي.
لقد سوّل الفساد المستشري لتلك المؤسسات الدينية المشاركة بعناوينها الطائفية على حساب العنوان الأكبر للبلد، عارضة بضاعتها المتخلفة على حساب النتاج الفكري والإبداعي لأبناء العراق، ظنًّا منها بأن العالم سيلتفت لتلك الهراءات مقابل اختلاسات ضخمة تمثلت بكلفة حجز الأجنحة الباهظة واقامة الموظفين المنتدبين الذين تميزوا بالبلاهة وعدم إجادة أيّة لغة أجنبية غير العربية. لقد تنافست تلك الجهات الدينية بطريقة تدعو للاستغراب في المعرض، فصدحت أسماء أجنحتها بالألمانية والأنجليزية، في حين غابت وزارة الثقافة ومؤسساتها ودوائرها المعنية بمثل هذا الحدث، كما غيب الإبداع والفكر العراقي، لاسيّما المترجم منه.
إن الجهل المطبق بقوانين وآليات وأخلاقيات ووظيفة الثقافة والكتاب، جعل من تلك المؤسسات الدينية المتغولة على الدولة العراقية والخارجة عليها، أضحوكة تثير الغرابة والسخرية في مثل ذلك المحفل المختص بالإبداع الإنساني المتنوع والبعيد كل البعد عن التوهمات الدينية والطائفية والطقوسية الهجينة.
وفي الوقت الذي احتفى فيه جناح بولندا بالروائية أولغا توكارتشوك الحائزة على جائزة نوبل للعام 2018 وجناح تشيلي بالكاتبة أيزابيل الليندي وترجماتها، غاب الأدب العراقي المترجم بتجاربه المختلفة، وغيّب الأدباء العراقيون وغابت وزارة الثقافة ودوائرها العديدة، وحضرت الأجنحة المتطرفة ببضاعتها الرديئة من الكتب والمجلدات الضخمة الخارجة من السراديب المظلمة.
إن أحد أهم ملامح اضمحلال الدولة هو غياب من يمثل ثقافتها في المحافل الدولية وبروز الأطراف الدينية مكانها في تلك المحافل، على الرغم من اختلاف الوظيفة الفعلية. و مناشداتنا المتكررة بضرورة تبني وزارة الثقافة للنتاج العراقي المترجم وتنظيم جناح خاص له والتعريف به وضرورة تكليف مهمة الإشراف على المشاركة الدولية في معارض الكتاب العالمية لمختصين من المثقفين والناشرين العراقيين الذي يجيدون اللغات الأجنبية، ألّا أنّ مثل تلك الأهداف السامية ستظل خارج نطاق اهتمام وزارة الثقافة حتى يستعاد العراق حرًا نقيًا لأبنائه ولثقافته ونتاجه الحضاري.

عرض مقالات: