شهدت الدورة الحالية لمعرض بغداد الدولي للكتاب، من بين ما شهدت، ظاهرة إقبال القرّاء الجدد من الأجيال الجديدة على الكتاب بطريقة تجسد المقولة التاريخية "بغداد تقرأ"، فالعلاقة بين الكثير من العراقيين والثقافة على ما يبدو علاقة تاريخية مبنية على مفهوم البحث عن المعرفة ومحاولة فهم الظواهر التي تحيط بالإنسان المعاصر، ولعل الترديات السياسية المتلاحقة التي شهدها العراق مقرونة بما يمكن أن نسميه الردّة الفكرية وانهيار مؤسسات الدولة وانتشار الفساد السياسي، قد أسهمت بشكل كبير في دفع الأجيال الجديدة الى القراءة ودخول الميدان الثقافي. وإذا كانت بغداد معروفة تاريخياً كسوق كبير للكتاب العربي ومحط أنظار الناشرين العرب، لما تمثله من فرص كبيرة في التسويق، فإن بغداد اليوم أصبحت، وفي ضوء ما تشهده من متغيرات، عاصمة منتجة للثقافة، ليس على صعيد اقتناء الكتاب وقراءته فقط، بل وتأليفه ونشره وتوزيعه، مستفيدة إلى حد ما من انفتاح السوق الثقافية واضمحلال دور الرقيب الأمني سيئ السمعة الذي كان مفروضًا على المنتج الثقافي في العهد السابق.
ولعل حجم المشاركة العربية في الدورة الحالية التي فاقت 600 دار نشر، ودخول دور نشر جديدة من مناطق عربية ظلت حتى فترة قصيرة معزولة نسبيًا عن الحياة الثقافية العربية، مثل ليبيا واليمن والسودان وموريتانيا، هو دليل واضح على الاهتمام الكبير الذي يوليه الناشرون العرب بالسوق العراقية.
ولم تقتصر الدورة الحالية للمعرض على حجم المشاركة العربية الكبيرة وحسب، بل صاحبها برنامج ثقافي حافل بالندوات وحفلات توقيع الكتب وحضور الكثير من الكتّاب والمؤلفين العراقيين من المقيمين في الخارج والعرب وبعض الكتّاب الأجانب إلى بغداد لتوقيع كتبهم للجمهور والمشاركة الفاعلة في برنامج الندوات الذي تضمن الكثير من المحاور المهمة، مثل أدب الكتاب في التراث العربي وتحولات الرواية العراقية بعد العام 2003 وواقع الترجمة في العراق، وتقييم مختبرات السرد العربية، والمثقف والسلطة من منظار نفسي، والنشر العربي إشكاليات ومغامرات وآفاق انتشار الكتاب العربي عالميًا، والبحث والابتكار في أدب الطفل، وفشل بناء الدولة والنظام السياسي في العراق، والنسوية في الأدب، الخصوصية والتجليات، وغيرها من الموضوعات المهمة والجريئة، إضافة إلى الكثير من القراءات الشعرية وتخصيص فعالية متميزة تحت يافطة (فالح عبد الجبار: الأثر والانجاز) لتسليط الضوء على المنتج الفكري للباحث والمفكر العراقي الراحل، كما جرى الاحتفاء بالأدب الكويتي واستضافة عدد من الكتّاب الكويتيين مثل سعود السنعوسي وبثينة العيسى وآخرين، بعد أن اختيرت الكويت كضيف شرف في الدورة الحالية للمعرض.
ولعل من الظواهر التي يمكن رصدها بوضوح هي غياب الدولة العراقية بمؤسساتها وممثليها عن المعرض وتنظيمه، بعد أن اضطلع اتحاد الناشرين العراقيين وبعض المؤسسات الداعمة له بتنظيمه والتخطيط له، وهي ظاهرة تستحق الثناء والتأمل، بعد أن اعتادت الثقافة العراقية وآلية اشتغالها على الحضور القوي للدولة ومؤسساتها في تفصيلاتها، واتخاذها مطية لتنفيذ مآرب الأنظمة وواجهة فولكلورية لإضفاء طابع التحضر على تلك الأنظمة، وهي دليل جيد على أن الثقافة العراقية بدأت بشكل جدي في تلمّس طريقها الصحيح ووضع اللبنات الأولى لاستقلاليتها المطلوبة، إذ يؤكد نأي السياسي العراقي الجديد عن المشروع الثقافي مدى عزلته المجتمعية وانشغاله بهمومه ومساعيه القائمة على الاستحواذ على المغانم واستغلال البنية السياسية المختلّة التي وضعها الاحتلال لترسيخ هيمنته على صنع القرار، بعد أن لفظه الجسم الثقافي وبتلقائية محسوبة خارجًا.
وقد شهدت الدورة الحالية اقبالاً منقطع النظير على الأعمال الروائية بشكل عام العربية منها والمترجمة والكتب الفكرية والفلسفية وكتب النقد والتحليل النقدي والاجتماعي، في حين شهد الطلب على الكتب الدينية والتراثية انخفاضًا ملحوظًا، بعد أن كانت تستحوذ على اهتمام القراء ومقتني الكتب قبل سنوات، وهي ظاهرة مهمة تستحق الدراسة والتحليل في ضوء ما يشهده عالمنا العربي من كوارث بنيوية يعتقد الكثيرون أن سببها الحقيقي هو النظريات الدينية وما لحق بها من تشوهات خطيرة في العقدين الأخيرين.

عرض مقالات: