يحدث وفي حكم البديهي في الحياة، والحيوات المتأتية من خلال التجارب والافكار، والهواجس والتشعبات، ان تتولد حالة الملل، وبالأخص اذا اقتطعنا أحد الجوانب الداخلة ضمن منظومتنا الحياتية؛ ألا وهي (السينما). فحالة مللها مؤلمة في بعض الاحيان؛ كونها اصبحت متنفسا وفكرة وفهما لواقعنا، وحتى أملا. لنواجه بعد ذلك بهالة الشعور التي ترافقت مع حالتها، بإحدى مخرجاتها العبقرية، وشطحاتها الجنونية عندما قدمت لنا فلم (السيد)**، وما تناولته أحداثه من دائرية في الألم، والفقد، والسيطرة، والجنون، والعبقرية. الفلم كان انزياحا ولـّد مفهوم الجنون، وآليات السيطرة عليه، ثم ادخاله مدخل صدق وأمل وحب - ربما – لخلق كائن جديد يبنى من شظايا الواقع، والبداهة التي تتكرر (كومضة شوهدت من قبل) . كانت هذه (القيمة) التي شكلها هذا المدخل، والتي ادخلتها كذلك عبقرية الممثل (فريدي كيل /خواكين فينيكس) في أطار احد التعريفات التي تقول : " أن القيمة تعد الميزة أو الخاصية التي بتوافرها تعطي قيمة للشيء وتجعله مرغوبا فيه .." 1 ، حيث أن الجنون/ البوهيمية التي أرسى دلائل قيمتها الممثل كونت دلالة على مختصر التعريف الآنف من خلال جودة الخمر الذي كان يصنعه بحرفة له حصريتها، مما حدا بالذكي البوهيمي الآخر ( لانكستر دود/فيليب سيمور هوفمان) ان يُلحقَ هذا التعريف بأن جعل " القيمة تعني قناعة الانسان وايمانه بالأهداف المشروعة... التي تعطيه معايير اطلاق الحكم على الافعال والاشياء سواء بحسن أو قبح ، أو عن طريق الأمر والنهي" 2 .

التمكن من الاداء، والخروج من مألوف التمثيل الذي اتبعه كانت له غاية أبعد - من حيث اتبعها او لم يعرفها توصله الى الحبكة المطلوبة، والرسالة الأخطر والاهم . الاداء الذي تشبع بــ (القيمة) كنسبية تجيز مطلق آخر في دلالات التعامل مع النص/الفن/الاداء المسرحي/الدور السينمائي، حيث ان " لكل سلعة ... قيمة استعمالية لولاها لما اشتراها أحد، ومن يشتريها لا يشتريها ألا للاستفادة من قيمتها الاستعمالية... " 3 ، وألا ما الذي دفع بــ (آرثر فليك/الجوكر/خواكين فينيكس) الى حمل اللافتة ( كل شيء يجب ان يذهب) مرتديا زي المهرج في موقف حياتي بائس بينته تلك التعابير الافتتاحية الآسرة، وكان همه الاكبر فيها ان يجد (قيمة) ما يفعله !!. " ان هذا الانسان يلطخ الالوان من دون أية علاقة بين الالوان، ولكن عندما تبتعد لمسافة قليلة، وتنظر من جديد، تجد انطباعا متكاملا بشكل عام "4. تتابع الاحداث اليومية بكل معطياتها، قد تركت كل رتابتها، وآلامها، وقسوتها في نفسه، التي تاقت الى الهدوء النسبي على الاقل، والذي كان قد تشكل في وعيه أولا من خلال: الأم.

أمه المريضة المتعبة (فرانسيس كونروي) وكيفية اعتنائه بها، ملبيا كل رغباتها، محاكيا فيها ترنيمات تبعده من (الأف ولا تنهرهما) – ربما كاستعارة لمقاربة الثوابت في التعاطي مع الوالدين/الام. وثانيا: من خلال حبه لعمله البسيط، وصديقيه في العمل اللذين يجعلانه يضحك هذه الضحكة الهستيرية، هذا المرض اللاإرادي !! الذي عرفّـه من خلال (الكارت) وهو يُبرزهُ للذين يصادفهم مرات بشكل غير منتظم، حيث تثير ضحكته في نفوسهم شيء من الغرابة، والنفور، وحتى شيء من التقزز!، وثالثهما: ما كان من لسان حاله الذهني الوهمي الذي نقله زمنيا ً وفكريا، الى مساحة المتخيل من الحب، والظهور، والشهرة، والوجود.

تلك الخوالج (الثلاث)، كان يتزامن معها توازيا ً، ما تشكل في اللاوعي الذي تكدست فيه معكوسات ما ضمته مساحة المتخيل؛ لتلحق بالألم القاسي الذي حدد مداه الدموي والذي بدأ باكتشاف الحبكة في القصة التي كونّها اللاوعي في الأم! حيث بدأ يتصاعد تدريجيا جامعا مكوناته بشيء من السوداوية التي ملكته بعد أن أكتشف زيف الامومة، وهواجسها التي اكتظت بكل دلائل العنف، والكذب، والهلوسة. هذه السوداوية التي تملّكت وجدانه، فارزة بكل (أفها) مخالب الشدة، والقسوة، واللذة الاجرامية عندما قام بطعن صديقه (بيل كامب) بواسطة مقص وبطريقةٍ وحشيةٍ، ثم فجأة ً من خلال حالة الهيجان وتملك القسوة لكل تفاصيل الحالة التي رافقت روعة المشهد، وجمالية الاخراج – الذي كان له الحصة المقابلة، والجانب الموازي لعبقرية الاداء التمثيلي لــ ( خواكين فينيكس) ، " كما أكد ذلك (مايرهولد) في مقولته الدلالية الجمالية ذات الفحوى الاستكشافية: ( لا توجد هناك قاعدة، لا يجب كسرها من اجل مزيد من الجمال) "5. هنا الفجأة تؤكد تلك الجمالية من خلال قبلة (الجوكر/خواكين فينيكس) على راس صديقه القزم!! كون هذه الفجأة، أرادت قبل ذلك، ان تبحث عن أي مخرجٍ يعيد تعريف (القيمة) كثيمةٍ تخرج من فُلكِ الدراسات المكانية، الى ان تصبح (... أنا موجود) ، بدلا عن أن تصبح بفعل طردية الواقع المادي: (فائض قيمة)، لان حالة الجوكر دلالة واضحة على جوانب التقبل الفلسفي لمصطلح (فائض القيمة) اذا أسقطت تعاريفه، ومكوناته، واسباب خلقه، من بوابة علم نظري كتابي، طبّق حياتيا من خلال معتركات (رأس المال)، ومقاربتها الشعورية التي أذا ما تملكت نفس الانسان الذي يشعر، ويرافقه بكل جوارحه شعوره الهامشي الذي لا يشكل أي ردة فعلٍ يغلفها الشعور الانساني البديهي تجاه الحالات السلبية التي تقود الكائن الى آلة للقتل والدمار واللامبالاة تجاه الآخر/الانسان؛ كونه "كلما زاد انتاج العامل كل ما قل استهلاكه، وكلما خلق قيما أكثر ، كلما اصبح اكثر انحطاطا ... وأقل قيمة"6. التصاعد الذي صُمِمَ مداهُ، بطردية التخبط، واللاجدوى، والكذب بحرفةٍ وخبث وواقعية. تزاحم الاحداث التي لا تقود إلا الى مزيد من الالام المستترة خلف القلوب، والتي تنتظر قلبا ً ما. هذا القلبُ الذي آثر القدوم على شاكلة المعطى الممتلئ بهذه الصور السلبية مجتمعةً ً، والتي كان واقعه خيرا مؤطرا لتلك الصور.

جلوسه في إحدى غرف (الاستوديو) في انتظار المقابلة (الاسطورية التي بناها من قبل في ذهنه) مع أحد اكبر امانيه التي كانت تبقيه – في البدايات-بحالة دفء ما. كان هذا الجلوس أشبه، وأشمل لتفاصيل المثل القائلٍ: (الهدوء يسبق العاصفة) لأنه كان يجد فيه " وسيلة لإحقاق الحق وتحقيق بعض التوازن عند اختلال الوضع"7؛ لكن في هذه المرة سيكون ضجيجا شوهته العاطفة !. العاطفة التي ترسخت على المبهم المزيف المؤلم حد التلف. فكان بعد ذلك مقطعا تصويريا (لكواليس) البرنامج بطريقة رائعة من الذكاء الإخراجي، بأن جعل هالة الالوان تظهر بشكل جلي وواضح وصارخ، تبقيه خلفها وامامها في حالة نشوة يبرزها الاداء (المونودرامي) ذو البعد النفسي الهائل المتشبع بالشخصية، تلك التي رسمها مراراً في مخيلته ولاوعيه ووعيه:

موري فرانكلين/ روبرت دي نيرو) :  (ربما رأيتم الفيديو الخاص بضيفنا التالي، الان قبل ان يخرج اريد ان اقول نحن جميعا نشعر بالحزن بسبب ما يجري في المدينة هذه الليلة ، لكن هكذا هو اراد ان يظهر في البرنامج ، وبصراحة اعتقد انه بإمكاننا الاستمتاع؛ لذا رحبوا معي من فضلكم بـ الجوكر ). فكان ختام النكتة دماً. الرسالة كانت مجرد أوراق مبعثرة زادتها حالة التكهن بالأحداث بعدا اعمق، من خلال بعثرة اوراق الفكرة على طاولة (فائض القيمة) لنستنتج نحن، على اختلاف (غوص الفِطَنْ) آليات الاشباع التي تترك فينا، ما اذا اردنا ان نكوّن دلائل شتى تنهض بالواقع الفائض بالكره، الى حالات تتصاعد بالإيجابية نحو (قيمة كل شخص ما يحسن) علنّا نحسن التوق الى الاغاني التي تميت التوحش، لتعود بالابتسامة من غير دموع لتزيح الالوان. 

الهوامش:

* كانت هذه القراءة تتعمد عدم الخوض في البنية المادية للفلم، بقدر ما هي محاولة لفهم التجليات الحسية التي تركها الوعي واللاوعي، المساهمان الاساسيان في خوض هذا الجانب النفسي لدى المتلقي من خلال هذه التحفه السينمائية.

** فلم اجنبي بعنوان (The Master/السيد) بطولة خواكين فينيكس ونخبة آخرين . 

 1،2) الحلايقة، غادة 2016 مقالة (مفهوم القيمة). موقع (موضوع) على الرابط التالي: مفهوم القيمة/mawdoo3.com) .

3) حسقيل قوجان 2008 شرح مبسط لقانون فائض القيمة . مجلة الحوار المتمدن (الالكترونية) 2397 .

4) الهمداني، أحمد علي 2006 مسرحيات تشيخوف (من "بلاتونوف" الى "بستان الكرز") في مختبر تشيخوف الابداعي . دار المسيرة . الاردن . 

5) حسين علي كاظم 2013 نظريات الاخراج دراسة في الملامح الاساسية لنظرية الاخراج. دار الشؤون الثقافية العامة. العراق .

6)  كريس هارمن 2006  الاقتصاد المجنون: الرأسمالية والسوق اليوم . مركز الدراسات الاشتراكية . 5 : 20 .

7) طلال حرب 1994 ديوان عروة بن الورد ويليه شعر صخر الغيّ. الدار العالمية. لبنان