كلما يقترب ذلك اليوم الشباطي بذات الشماعة السوداء والرقم ثمانية بخطيه المتعامدين مشكلا زاوية حادة، تنتابه رغبة الانزواء في مكان بارد ومظلم، مكان يبتعد فيه عن الفوضى الضاجة كالمطرالمتواصل وهو يحيطه كمعطف أسود سميك مشدود على جسده بقوة. فوضى تشبه ما حدث في ذلك اليوم "البعيد" و"القريب" منه في ذات الوقت. هكذا يحاول أن يفلسف الأمر، فهو "بعيد" جدا إذا قيس بالساعات والأيام والسنوات التي تفصله عنه، و"قريب" جدا، لأن ماحدث فيه لايمكن أن ينسى مهما تقادم الزمن.. "
"لماذا يكره 8 شباط".. يعرف ولا يعرف.. يعرف، لأن من ُوضِعَ خلف القضبان كان أقرب الناس اليه .. ولا يعرف (يومها كان ابن العاشرة) مهما امتلك من سبل المعرفة، كيف يجد تفسيراً معقولاً لما جرى من احداث غير معقولة في ذلك اليوم، رأى بأم عين الطفل ذي العشرة أعوام، عشرات الجثث الملقاة في الشارع.. ينز منها دم كثير يمتزج مع التراب..
"كانت شوارع كركوك ايامها ترابية" رأى بأم عين الطفل الصغير في الساحة الدائرية المقابلة لمبنى مجمع المحاكم، مشانق خشبية تتدلى منها اجساد بشرية معلقة من أعناقها، اجساد رجال يرتدون البيجامات وهو يفتحون افواههم التي تتدلى منها ألسنة طويلة، واقدامهم تتأرجح في الهواء بفعل اهتزاز الجسد ودورانه حول المركز حيث الحبل يتيح قليلا من الحركة للجسد الذي يدور على نفسه ربما بفعل الريح ـ. رأى بأم عين الطفل الصغير لاول مرة بندقية "البورسعيد" سيئة الصيت وهي معلقة على اكتاف رجال يتبخترون بها ويصرخون "مات.. مات الزعيم". وتتردد كلمة "مات" تعقبها اسماء لم يكن يعرفها، مات لمرات، اصوات متأرجحة تشبه أرجحه الاجساد المعلقة بحبال مشدودة الى خشبات تبعث صريرا غريبا... بقي ذات الصوت يتردد في رأس الصبي الصغير الى يومنا هذا وهو يجتاز عتبة الستين من عمره"... رأى الفتى تلك الماسورات وهي تطلق الطلقات السريعة باتجاه الجماهير الغاضبة النازلة من منطقة "كاورباغي" و"القورية" و"منطقة التسعين" و"القلعة"..
ركض الصبي، لا يعرف الى أين يتجه.. والطريق الى البيت باتت مغلقة تماما. وحينما عاد رأى أمه وأباه والكثير من الاولاد يتجمعون قرب باب الدار فزعين وخائفين عليه من الموت الذي كان محققا. لكنه بعد ذلك اليوم بأسبوع رأى بأم عينه كيف وقف الرجال الخمسة او الستة او العشرة لا يتذكر لكن أمر عددهم غير مهم.. كان يلعب مع اصدقاء له في الشارع لعبة البوكر بالصور.. رأى بوضوح سيارات اللاندروفر وهي تقف امام باب بيتهم ورجال " البور سعيد " يهبطون منها، يطرقون الباب الذي فتح حيث رأى بأم عينه الاب وهو يقاد بينهم. ركب الجميع السيارات التي لايعرف الى أين كانت وجهتها ومن يومها لم ير أباه إلا بعد عام كامل.
إذن: هل يحتاج الامر الى شرح بعد الآن عن السبب في كراهية الطفل الذي شاخ يوم 8 شباط، لكنه وعلى الرغم من معرفته بكل هذه الحقائق، يقلب في كل عام تلك الدفاتر التي لاتمحى اطلاقا من سجلات الذاكرة، مكتشفا في كل عام اسبابا جديدة لهذه الكراهية !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* بيان رقم 13ـ الذي القاه يوم 9 شباط الحاكم العسكري للانقلابيين "رشيد مصلح" والذي عد بموجبه الحزب الشيوعي من اعداء الانقلاب، وقدّم الحزب وقتها الآلاف من الشهداء والمعذبين والمعتقلين.