( كان وجهه، هذه المرّة، أكثر عافية ووقارا منذ معرفتيّ به؛ قبل ما يقارب الخمسين عاماً) .

بهذا المفتتح كتب المترجم " حسين عجه " عن صدمة الرؤية الأولى لجسد صديقه الشاعر " مؤيد الراوي " مسجى في  قاعة ما يُسمى "القاء النظرة الأخيرة" التي تتوسط مدينة برلين ، وتحدث عن سبعة أشخاص فقط كانوا معه قرر أن  يعددهم باسمائهم، مبررا ذلك بعبارة " إذا ما أقتضى الأمر" مضيفا وهو يقتضي كما يبدو: فخرية، رفيقة حياته وجسده، رانيا ابنته وتأمله الجذريّ، فرياد فيصل ، صديقه وملاذه الأخير في برلين؛ فاضل عباس هادي، صديقه الحميم، الأقرب والأبعد ربما، في آن معاً، كفاح الأمين، الفوتوغرافي العراقي المعروف واليقظ حد الهوس بحبه تاريخ، ماضي وحاضر الوطن؛ عدنان محسن، الشاعر و"المثقف" العراقيّ، الذي عرفه وتعرف عليه في برلين.

الحديث عن الموتى وصور وجوههم لايشبه ما عرفناه عنهم في حياتهم ، إذن هم الآن أكثر جمالاً ورهافة، وجوههم تخلو من أي أثر لنزاع داخليّ أو خارجيّ؛ من أي ألم أو مرارة، حينما يتحول ذلك الوجه، والبدن بكامله بلا مبالغة، النقطة الأسمى والمطلقة للتآلف مع الحياة، مع المحيط، فأشكال وعواصف "النزاع" هي جنون ومصائب "الألم"، خضات وشراسة من المرارة ، يقول " حسين عجه " عن " مؤيد الراوي " : أكتب عن وجه عرفته عن قرب حدّ المُلامسة، في بغداد، في باريس وبرلين: وجه مؤيد. كلا، ليس عن وجه مؤيد، وإنما عن الطريقة، لكي لا أقول "الأسلوب" الذي كان هذا الوجه يتخذه أو يتشكل عبره لحظة غفوته، حينما كان النعاس أو النوم يأتي بتمهل "الزمنية والأبدية" ليس هناك ما يُقال أو يُكتب! بهدوء أقول: كانت دموع فخرية، زوجته وأم ذريته المباشرة" مازن ورانية" لم تكف عن الهطول والسكب، حتى عندما كانت تتحدث عن الفراق، الرحلة، والنوم، وليس عن الوفاة، العدم أو الموت: ذلك ما لم يكن مؤيد قادراً على القيام به ولن يتمكن: الفناء أو الغياب المطلق. وفاة مؤيد ليست غيابا ولا فناء ولا انسحابا عبر مطلق سرمدي عن العالم، الحياة والوجود؛ كانت وما تزال المفردة الأقرب لروحه هي اسم "العالم": للعالم وقع أكبر ثقلاً على قلب، عقل، ضمير، وطاقة مؤيد "الإسطورية"، من ثقل وإيقاع الحياة أو الوجود: التحام، التصاق، تشبث، عناق أو رفض مؤيد للعالم شيء نادرٌ. لذا أحببناه. لم يكن ذلك الحب، بلا مباهاة، وهماً. لم يكن مؤيد قادراً وسيظل أبدياً عاجزاً عن "جر"أو "نزع" نفسه، عشقه الخرافيّ للعالم. كلّ تساؤل عنه، عن صخب وتوهج حضوره وغيابة، لا يمكن أن يُفهم إلاّ عبر توهج، حضور وغياب العالم ذاته. ليس النضال، ولا شوارع المدن، ولا مقاهيه، بما فيها مقهى "إبراهيم" إلا صورة أو معايشة حية لنضاله في العالم، في شوارع مدن العالم، ومقاهي العالم. ليس بمقدوره، ولن يكون بإمكان وفاته سحبه عن ضراوة تعلقه، حبه، أوبشكل أدق، رغبته وعناده (أنا لا أعرف، عبر تجربتي والزمن الطويل الذي "عشته" و "أعيشه"، شخصاً أكثر ثباتاً إزاء قراره، بما فيهم "أنا"، إصراراً على موقفه السياسي، الأخلاقيّ، اليوميّ، الواقعي، الوجودي والفكري أكثر من مؤيد الراوي).

في القاعة، كان جسده أو "جثمانه" "مسجى" أمام أبصارنا. كانت زوجته أول من بدأ بتقبيل وجهه والجانب الظاهر من ذراعه، يده، من دون أن تكف عن ذرف دموعها، والتحدث معه، ثم كنت أنا؛ قبلت وجهه ويده، كما فعلت هي، بذرف بلا ذرف للدموع، وبلا مخاطبة مباشرة لحضوره. حضور مباشر وجليل، كما كان، بالدقة، في حياته. أو عندما كانت "هذه"، الحياة، تغذي وجوده الباهر، زهده. ينبغي التعامل مع مفردة "زهد" هذه بأعلى أشكال الاحترام؛ ذلك لأن مؤيد لم يكن زاهداً؛ وعلى الرغم من ذلك، كان وسيبقى، بالنسبة لمن عرفه عن قرب، زاهدنا الأكبر ...  ماقاله " حسين عجه " حفزني على أن اقول لك يا مؤيد، أنت الذي طالما وضع النسيان لصالحه أو تدبير أمره في "العالم" والتباسته، كما كان يحلو لك قول ذلك، لن ننساك، لا نحن ولا الأجيال التي ستعقبنا، ليس لأنك شاعر، صوفي، ماركسي، أو مثقف "جذريّ"، أو "كركوكي"، من مدينة كركوك، ولكن لأنك كنت وستظل أنت، ولأننا "ولدنا" منك، معك، بعدك، ولكن ليس قبلك!

كان فاضل عباس هادي، يردد على مسمعي، في المقهى المقابل لمطعم نزار، في أحد أزقه شارع السعدون القول التالي: "مؤيد ضميرنا الأخلاقي، في زمن وظلام إنقلابي 1968". أكثر من ذلك، كنت أرد عليه دائماً، إن كان يسمع أو لا: "كنا، أو حاولنا، أن نكون عوناً لك في نضالك.

عرض مقالات: