إن صوراً فوتوغرافية قديمة بإمكانها ان تعيد الى الشخصيات حياتها وتحول سكونها الطويل إلى حركة مرئية، تدل لقطة رمي الشباك من قبل صياد يقف على ضفاف النهر عن معنى الضمائر المطمئنة في كسب الرزق، على الرغم من أن مهنة الصياد تنتج عن حياة مرتحلة، وتتطلب الصبر وتحمل الانتظار الطويل، تكشف لنا عين الكاميرا هنا عن حقيقة الوظائف الحكائية للأشياء، فلكل مهنة منطقها الخاص بها والمعبر عن مقدار المهارة اللازمة للصياد وهو يرمي شباكه في مسارات مياه النهرين التوأمين دجلة والفرات وتفرعاتها أو في المسالك المائية الضيقة، متدرعاً بالثقة، مجدداً قواه عبر رمي شباكه في كل مرة وطرق أبواب المجهول بعناد مستمر بحثاً عن الرزق من دون أن تحطمه خيبة أمل واحدة مترنماً باغنيات الصياد السعيد وهكذا بوسع هذه اللقطات اكتشاف أسطورة الصيد الميساني للأسماك في الماضي بكل شخوصه واحداثه حيث تتجلى الامكانات الحية لصور فوتوغرافية في التقاط تعبيرات ذلك العالم المرئي، إنها تنطق وتعيش معنا لتقول ان أولئك الناس هم الأجدر في ممارسة مهنة الصيد.
تُشّيد قوارب صيد الأسماك بمقتضى مشيئة نهر سواء على مستوى ممارسة المهنة او بوصف النهر وسيلة من وسائل الاتصال، إذ تبنى هياكلها عبر صفوف مزدوجة من الواح الخشب، وبالقرب من شواطئ الأنهار لذا تعد من المرئيات المألوفة في الأرياف الميسانية انها منتظمة الصنع ومشيدة بصور شتى مثل (الهويري) ذو القيدوم المعقوف (والبلم والمشحوف والكعدة والطرادة والدانك والمخيط) وهو أعجوبة في الشكل ولا يتسع لغير صياده، محملة بوسائل الصيد مثل شباك (الطفاحية والعباري والنصبة والكرفة والسلية وابو زويني) وحجومها المتمثلة بـ (الثليثي والسبيعي والمحير) الخ وتُستكمل عدة الصياد أحياناً بـ(الفالة) و(الشكافة) . تتحول قوارب الصيد بعد الانتهاء من تشييدها الى كيانات متحركة ضمن المكونات البيئية للمياه، حيث تأخذ ترتيبها المكاني والذي يضعها في نطاق حياة الصيد، فتندرج أشكالها ضمن سياقات البيئة الحافلة بوسائل الصيد، ومن بينها تلك التي يتطلبها الصيد الليلي المشحون بلحظات الترقب، فتصبح عملية الصيد في صورة لم تكن عليها من قبل فتعلن (الفالة) و(اللوكس) و(التو رج) عن قيمة حضورية في عملية الصيد حيث لم تعد السمكة الكبيرة حبيسة في أعماق بعيدة فتستنفذ من صيادها اوقاتاً ملأى بالمكر والخديعة، فبعض الأسماك عصية على الغواية غير أن الصياد صاحب (الفالة) المترقبة والموازية لسطح المياه يكشف في برهة خاطفة عن الحد الفاصل بين المعلوم والمجهول في كسب الرزق، فعليه إن لا يسرف في إهدار فرص ضائعة فالزمن (لا يرتد على عقبيه). فاذا لم يمتلك المهارة الرياضية في الصيد فسوف يلم به كثير من القلق، وتنتابه حالة التأرجح بين رغبته في صيد ما يرغب وقدرته على ذلك، فيعيش في مراحل متقلبة بين عسر ويسر كلما اقتربت لحظة الوعد بالسعادة وفي مثل هذه اللحظات ينبغي إن يكون رجل مهارة فيجمع بين أفضل سجاياه، لتغدو على أقصى ما يمكن من البراعة، يبذل كل عنايته في انتظار الظهور المباغت للسمكة الكبيرة مثل (الكطان) وما شابهها الذي يجري في سرعة لمعان البرق المليئة باللمحات التنبؤية تلك هي الومضة الخارقة للسمكة الكبيرة وهي تجتاز مخاطر الفالة المترقبة، تفصح هذه الحركة الوسيطة بين حالين عن إنجاز لحظوي يرافقه ضرب من التفكر البصري هكذا تجسد الصورة الفوتوغرافية الصياد في وضع الاستعداد لفعل محتمل كل ذلك يحصل في جزء من اجزاء الثانية، فلا وجه لخيار آخر لديه .
تقتنص ذاكرة الفوتوغراف اللقطة الأكثر تفوقاً في القبض على لحظة نادرة تجري في برهة حاسمة تشذ عن القياس يكون خلالها الصياد شديد الأمل ويواجه خيارات صعبة لاسيما لو اخطأ في تقديره أو لم يفعل الأشياء في وقتها فعمله مقرون بمواصل الترقب و من ثم العيش، ان ما يصطاده سيغدو بين أيدي المتبضعين حيث تزدوج صور الحياة والموت فدلالة موت السمكة واصطيادها تتحول إلى دلالة ادامة الحياة واستمرارها ذلك هو وجه المهنة المؤثر في ديمومة الجنس البشري.
تسهم لقطات الفوتوغراف في استيضاح معالم التكوين البصري للمكان إذ تمدنا الكوامن الضمنية للصورة بفيض من الاستذكار المرئي انه الحافز الصوري الذي يفوق المشاهدة العيانية معبراً عن قدوم معان أخرى لعمليات الصيد غابت في الزمان فاللقطة الصامتة تمارس هنا دورها في التكلم، ان صمت الصورة بمقدوره ان يكشف لنا عن قفزة مخيفة في الظلام لسمكة مجهولة زلقة سرعان ما تفلت من اليد غير العارفة بالصيد وتعرض لنا صورة فوتوغرافية ما، الصفات الجسمانية للصيادين القدامى والتي عبرها تتلخص قدراتهم الحرفية ويشيع ذكرهم بين الناس، يوم كانت رحلات الصيد رحلات حافلة بالمخاطر والتطواف عبر المياه وامتداداتها التي لا تنتهي عند حد حيث يتجلى البعد المفتوح لحركة قارب الصيد منساباً في فضاءات المتاهة المائية مواصلاً البحث عن الأسماك التي لا يسهل تبينها بين أجمة القصب فيتملك الصياد جنون التنقل من اجل الصيد والجري وراء الأسماك التي لا تنهكها السباحة المتصلة فيعمد الصياد الماهر إلى تعقبها وانتظار الوقت المناسب لاصطيادها.
ان كثافة تواجد الأسماك في أماكن مائية معينة تدعو الى تآلف زمر من الصيادين في تشكيلات جماعية متنقلة تجمعهم المعاضدة والاستثمار المشترك ولعلنا لا ننسى الصيغ التحذيرية لزمر (البربرة) المسمى (الطباب) لمنع الأسماك من الابتعاد صوب اتجاه آخر وجعلها لا تنأى بنفسها عن طوق شباكهم، ذلك هو نتاج التشارك والتوافق في العمل الجماعي إن شباكهم تواصل إحكام حصارها حول الأسماك المستسلمة لقدرها.... ان للصياد يد من ذهب وهو يمارس مهنته التي استطاعت على الدوام الاحتفاظ بأهميتها.

عرض مقالات: