ملاحظة: سنمرّ في هذه القراءة السريعة بأسماء بعض الشعراء البصريين، و ليس غفلة منا أن أسماءَ كثيرةً أخرى لم يرد ذكرها ستكون محورا لمقالة أخرى طويلة.
ما دام شاعرُ قصيدةِ النثر غيرَ ملزم بمحددات القصيدةِ العمودية أو قصيدةِ التفعيلة من قافية و وزن و نظامِ بناء صارم فإن دخولَه عالمِ قصيدةِ النثر يعني الولوج في غابة غيرِ مأهولة، وحشيةٍ و بدائية و مقدسة، و هي أشبه ما تكون بجنة مكتظة بالمقدس و الجميل و الساحر و المخيف. إن العبأ و الهمَ و المسؤوليةَ الواقعة على شاعر قصيدةِ النثر لأكبرُ من تلكم الواقعةِ على شاعر العمود، فشاعر العمودِ يتكأ على الوزن الثابت و رنينِ القافيةِ و ترادفِ الأصوات ليؤثر في وجدان القاريء حيث تعمل تلك المنظومة الموسيقية على توليد الإنطباعات المؤثرة في المتلقي فيشعر الأخيرُ بالرضا و الامتلاء حين يتلقى القصيدة، حتى لو لم يُلِمّ بكل أطراف مدلولاتها و انثيالاتها و شجونها.
أما قصيدة النثر فهي روحٌ غريبة متمردة تجوب القفار و تتلظى بنار الغربةِ و الوجع لأنها حرةٌ منطلقةٌ لا تلتزم بقيود القصيدة التقليدية و ستراتيجيتها، و الحرية مسؤولية و التزام، و الإلتزامُ هو الكشف و الرؤيا الصادقةُ و الدخولُ الى منتجع ممارسةٍ إشكالية لا تناظر المتوقعَ و المألوف. و من ناحية أخرى، فأن شاعر قصيدةِ النثرملتزم بقواعد و أسسٍ خاصة به يخلقها من مخياله الخاص و تُصبحُ دمغتَه المعبرةَ عن دواخله بحرية شفيفة و الكاشفةَ عن خطابه المختلف. و قد تتغيرُ تلك القواعدِ بين زمن و آخر أو بين قصيدةِ نثر و أخرى حسب مزاجِه و خيالاته و خلجات روحه و المؤثراتِ النفسية و الفكرية المحيطة به.
يمتلك شاعر النثرحريةً تتيح له إمكانية َاستغوارِ ذاته و طرح أسئلةٍ قد تجد لها جوابا أو لا تجد، و تُصبح قصيدة النثر بالتالي ذاتَ طاقة شعرية تعبيرية لا تقلّ ربما عن تلك التي تختص بها القصيدة العمودية، إن لم تزد عليها، فالصورُ و الاستعارات و الكنايات و التقنيات الأسلوبية و المضمونات الفكرية و الفلسفية و النفسية تعطيها زخما قويا و طاقة خلاقة.
يُحلق شاعر النثر عاليا في فضاء ذاته رغم الإنكسار و التشظي و الخذلان. يقول عادل مردان "هو لا يخذلكم و لا يخذل نفسه/ إنه أشعر الشعراء/ ذلك الطائر الذي/ يحلق بربع جناح". الشاعر هنا، و أي شاعر نثر متمكن آخر، يعرف أنه لابدّ أن يبدعَ و أن يخلق العالم من جديد، و كما يقول آلن روب غرييه "الإنسان نفسه هو ما ينبغي إبداعه"، و ذلك ما يحاول شاعرُ قصيدةَ النثر أن يفعله حين يخرج عن القوالب التقليدية و يبتدع مغامرة شخصية لا ترومُ الوصولَ إلى حقائق مطلقة، إذ ليس للنص حقيقةٌ كما يقول غرييه أيضا. و تُرينا قصيدةُ النثر أن العالم متحرك ٌو متغير و متقلب لا يستقر على حال، فكيف يكون حقيقيا إذن! و قصيدة النثر لا تلتزم بمباديء حزب شموليٍ أو مقدسات دين ما، فأولئك يتصورون أنهم يمتلكون الحقيقة كلها، أما قصيدةُ النثرفترى حقائقَ عديدةً متنوعة، و ربما غريبة ًو متناقضة،إذ هي تناغي الحياة و ما وراء الحياة بذكاء و صدق و عفوية، حتى أنها كثيرا ما تخذل الشاعر فلا تكون له ملاذا و لا مستقرا. يقول الشاعر عمار كاصد "الشاعر في خريفه الأخير/ نزع أغلفته المستعارة/ و بان عريُه أمام المرآة/ يذرع أرض حيرته/ و قد لفّه التعب/ خلف باب موصد/ و نافذة مفترضة/ يخطط لربيع قادم/ إذ أن اللغة/ وعاؤه الكبير/ الذي لعط حسائه الحار/ تخذله الآن". و مع كل ذلك الخذلان و الإنكسار يلجأ الشاعر الى الحلم و الأمل الجميل الذي يصنع به الحياة من جديد، كما يفعل الشاعر علي نوير حيث يقول "في الأحلام/ في الأحلام فقط/ ليس ضروريا أن يكون لك جناحا نسر أو طائرة نفاثة/ كي تحلق بها فوق الحقول و الغابات و الأنهار". و هكذا يحلق الشاعر ليمتلك العالم كلَه بوعي مختلف و إحساس مرهف و خيال جامح و يعيد صياغة العالم بحيل جديدة. و نرى ذلك أيضا لدى منذر خضير، إذ يقول "خرجت بجناح واحد/ اقتنيت من السماء زرقتها/ ستون كوكبا لي/ و سبع نساء بدويات/ مجرةٌ من عبيد/ و أباطرةٌ من خزف".
ان الحرية التي تهبها قصيدة النثر تجعل الشاعر متوثب الفكر، متوقد الضمير، واعٍ لعبثيةٍ وجودية تكتنفه من كل الجوانب، و ربما منح تلك العبثية روحا لا نجدها إلا في قصيدة النثر، و خيرُ من يمثل ذلك الحال الشاعر هاشم تايه، إذ يقول "هذا الذي يتدلى قارعا، من حولي، الساعاتِ/ معربدا في الكهف:/ "أنا روح العالم"/ كم يوَد لو يثِبُ، الآن، مثل وعل/ قافزا فوق سبعين أرضا من الموت/ هذا الأعمى/ بمن يتربص في العماء؟"
و يراود هذا العماءُ شاعرا عن اطمئنانه فيُريه حقيقة العالم، إن كانت للعالم حقيقةٌ، و يُعري سوءة الوجود بأبيات قليلة حكيمة للشاعر واثق غازي تكشف عن الأمان الكاذب الذي نستمتع به، فيقول "الأسوياء/ الأوضح في صورة القن الجماعية/ يبدون مطمئنين/ لهشاشة السقف".
هكذا همُ شعراء قصيدة النثر، إمّا يعرّون العالم فيكشفون لغطَه و ضياعَه و قسوته، و إمّا يتحايلون عليه بالهروب الى عوالم أجمل، كما يفعل عبد الأمير العبادي، فهو يقول "أ تحب النخلةَ التي هزتها مريمُ/ أحبها حيث أعشاش الحمام فوقها/ أ موسيقى الموجِ و البحرِ أجملُ/ حين يكتب الشعراء فيهما لحنا". فهو هنا يفرُّ الى الطبيعة المسالمة حيث النخلة و الحمام و الأعشاش و البحر و الموج التي تنتظمها جميعا موسيقى الكون. شعراء قصيدة النثر الحقيقيون يتشابهون في هواجسِهم و أحلامِهم و فهمِهم لهذا الوجود، و هم جميعا يهربون، كلّ بطريقته الخاصة، الى عالم أجمل و أسمى من العالم المكتظ بالملل و اللامعنى، فنجد شاعرة متطامنة على وجودها و حياتِها بانتمائها الى عائلة تبعث في روحها الأمان و السلام لاسيما الجدة التي تهيمن بروحِها الدافئةِ و ببلسم كلماتها على أفراد العائلة، نجد شاعرتنا بلقيس خالد تهرب في بعض الأحيان من هذا العالم، بالرغم من سكينته و وداعته، نحو عالم أكثرَ خيالا و امتدادا و لهفة، ذلك هو عالم الشاعر، تقول بلقيس خالد "سياج البيت/يرسمني/لوحة عائمة/لا متسع لأجنحتي/ سأكسر إطار/اللوحةِ/لعلني أصلني/أرسم بحارا/ و أعبرها".
أما الشاعر مقداد مسعود فيتخذ عديد الطرق للهروب الجميل من عالم ملتبس يصفه بقوله "في منتصف الشمس تختلطُ الجهاتِ تتبادل الأدوارُ/كلُّ قادمٍ ذاهبٌ و الصاعدون نازلون/ و لا شيء كلُّ الأشياء/ يا صحرائي/ هل حقا يخدش وجهَك وجهُ الماء/ فيبتل المعنى!" هكذا و في وضوح النهار تلتبس الأشياءُ و تختلطُ الأدوارُ فتضيع المعاني، و ليس أمام هذا الجدب إلا الماء الذي يبعث الحياة. هنا نتذكر تي أس إليوت و أرضَه اليباب، لكن شاعرَنا مقداد مسعود لا يتوقف عند جفاف الأرواح التي تسكنُ عوالمَ إليوت و تستبدُ بكائناته المهووسة، إنما يتحرك مسعود، في قصيدة أخرى، ليغير جوهر الأشياء، فالماء الذي يخدشُ وجه الصحراء في القصيدة الأولى "لا يتوقف عن همسه" هنا، إنه "صباحٌ بطراوة أجاصة"، و الشمس القاسية هناك تتحول هنا إلى "فرشاة تلمّع الثيّل و تندس في أجراس/ الأزرقِ/ الوردي/ والناصع".
و هكذا يستثمر الشاعر الزمنَ كلَّه كي لا يضيع في متاهات الجدب و الحيرة. الزمنُ الضائع الملتبس بالدهرو بليالٍ سودٍ عند اليوت، يتمثل عند مسعود بأجزاءِ يوم واحد، سعيدةً مسالمة، تغنيه عن دهر عقيم. يقول مسعود "الفجر لي/ و هذا المساء... بعيدا عن الصخب/ لي/ اخضرار الضحى، يتوجني/ طائرا/ في سماء عميقة/ سلام الحديقة/ لي/ و انصباب الظهيرة."