في سبعينات القرن الماضي وفي بيت يتوسط قطاع من القطاعات القريبة من السدة، ولدتْ كأي صبية جميلة، لكن جوقة الاطباء الذين تحلقوا حولها قالوا للأب أنها معاقة فسماها ابوها بعد أن أطلق تنهيدة عميقة من صدره "قسمة".
أمام أنظار الأب والأم كبرت "قسمة". لم يبن عليها شيء مما قاله الأطباء، فهي جميلة وتكركر كثيرا حالما يقترب منها أحد.. تضحك بتواصل. الأطباء قالوا عنها انها مصابة بالتَوَحُدِ الشديد..
كبرت " قسمة " بسهولة، لم تُصَبْ يوماً بالزكام أو مرض آخر طوال عمرها، تجيد الضحك وأكل الحلوى وإطلاق ما تسميه النكات التي لا يفهمها أحد إلا أباها الذي يضحك معها، واذا لم يكن هناك أحد معها فتطلق نكتة ما وتضحك وحدها.
وَفَرَ لها الأب ما لم يوفره لإخوتها وأخواتها.
"قسمة" الضاحكة تعلقت بالأب الذي ذهب إلى الحرب، كان في كل شهر يذهب الى الحرب ويعود وهو محمل بالكثير من الدمى والحلويات، إلا في المرة الأخيرة التي ذهب فيها ولم يعد في موعده.. رسمت في عقلها صوراً لزمن مشوش، مر سريعاً لا تعرف كيف !؟ لتتأكد بأن غيبته طالت إلى أن عاد يوما الى البيت ملفوفا براية الوطن.
وقفت "قسمة" قرب التابوت مذهولة من بكاء أمها وجدتها والكثير من النسوة اللواتي تحلقن حول التابوت الذي وضع في الهول الصغير. انتابتها نوبة من الضحك الهستيري.. حينما قالوا لها إن من في التابوت هو أبوها الذي كان يجلب لها الحلوى!
ــ كيف يمكن لأبيها الذي يحبها أن ينام بين خشبات ملفوفة بقمشة ملونة دون أن يجلب لها الحلوى؟!
قبل أن يحملوا التابوت وقفت وقربت وجهها من الخشبة وصاحت:" بابا أنا قسمتك.. أريد حلويات".
لم تبك اكتفت بهذه الصرخة وعادت تلعب بأشيائها الصغيرة.. كانت في الثانية عشر من عمرها حينما غادرها الأب.. وفي الخامسة عشر غادرتها الأم .. لكنها كانت تقول لكل من يسألها عن إسمها "أنا قسمة بابا" وحينما تقولها تنزوي وهي تطرق رأسها إلى الارض وتضيف: "كان يجلب لي صينية من الحلويات".
"قسمة بابا" على مشارف الخمسين من عمرها ما زالت لا تجيد الا الضحك والضحك واطلاق النكات التي لا يفهمها أحد والتي لا يضحك عليها أحد إلا هي.
"قسمة بابا" تقف اليوم قريبا من بوابة البيت الذي يتوسط القطاع الذي يحاذي السدة، تنتظر عودة الأب الذي كان يجلب لها الحلوى، وفي مخيلتها عبارة تريد أن تقولها له: "اريد يا أبي دمية كبيرة بحجمي". تضحك بصوت عال وتضيف: "وتحب الحلوى مثلي".
"قسمة بابا" تعيد العبارة التي تريد أن تقولها للأب ولكن بلغة لم يفهمها أحد.. وحينما ينال منها التعب تنزوي في غرفة من غرف البيت الذي يتوسط القطاع المحاذي للسدة.