مرّت هذا العام الذكرى المئوية لوفاة الشاعر الشعبي النجفي الفذ الحاج زاير الدويـﭻ، بعد حياة دامت تسعاً وخمسين سنة تقريبا وحفلت بالمعاناة وبالعطاء الشعري الفريد.
ولد الحاج زاير في العام 1860م في منطقة برس (بورسيبا) الواقعة بين مدينة الحلة وناحية الكفل، وانتقلت عائلته إلى مدينة النجف الأشرف بعد سنوات من ولادته. ولم يلبث طويلا في كنف والده الذي توفاه الأجل مبكرا، فاضطر منذ نعومة أظفاره إلى الانخراط في سوق العمل، بعد ان ترك التعليم عند الملّه وأصبح معيلا لاهله متنقلا بين أعمال مختلفة.
هكذا بدأت مسيرته الشاقة مع الحياة. وكان لا يزال صبيا حين تلاقفته أيادي العنت والهوان، وبقيت تلازمه حتى رحيله عن هذا العالم. وهذا ما طبع حياته (وشعره الى حد بعيد) بالسوداوية، رغم اشاعته الضحك والمرح حيثما حل. فقد كان كمن يتشبث بالفرح الذي لم يكن له منه إلاّ الشكل، علّه يفلح في ايجاد معادل موضوعي لحياة البؤس والمرارة.
وعلى امتداد تلك العقود من الزمان، لم يكفّ العوز والفاقة عن ملاحقته، بل أمسى التشرد قرينه، حتى أسلمه إلى متاهات افقدته كرامته في أحايين كثيرة. وغمر الاحباط حياته واصابه بالجزع، لكن لاوعيه دفعه كما يبدو الى التصدي للواقع المر وللإشكاليات المجتمعية المرتبطة به. وكما يبدو ايضا، هداه هذا ـ الى جانب عوامل أخرى ـ الى عالم الشعر، الذي وجد فيه ملاذا يعبر من خلاله عن دواخله وأحاسيسه ورؤيته ما يحيط ويستفز ويثقل ويؤلم.
تعدُّ التجربة الشعرية للحاج زاير المدخل الرئيس الى الشعرية الشعبية العراقية. فليس من السهل الولوج إلى هذه الشعرية من دون الاطلاع على تجربته بكل جوانبها، والتوقف عند خصائصها الأسلوبية، ومعرفة اشكالها الكتابية وسمات تفردها المضموني واللغوي. والناظر الى شعر الحاج زاير يجد فيه ما لا يجده في شعر غيره في زمنه من حيث الأفكار والموضوعات، والمحتوى والشكل، والألفاظ والتراكيب. ففي شعره لا تكاد تتلمس للزمن أثرا، وكأنه كتبه لكل الأزمان، وما زال العديد من نصوصه الشعرية يحتفظ بحرارته وكأنه قيل اليوم، أو في مثل احداثنا المعاصرة. ومردُّ ذلك ـ على حدِّ زعمي ـ رؤيته العميقة للحياة وطبيعتها، وادراكه اللافت لعناصر المجتمع ومحركاته، وامتلاكه موهبة فطرية عززها وعيه، فنمت وترعرعت في ظروف عسيرة وشاقة، وقد صقلها العوز والفاقة.
قال فيه المستشرق الفرنسي جاك بيرك :"هو أعظم شعراء اللهجة الشعبية (العراقية) دون منافس، وشعره ذو بعد عالمي"، وكتب المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني صاحب كتاب "تاريخ الوزارات العراقية" : "الحاج زاير.. أسرع شعراء عصره بديهة، يقول القصيدة التي تبلغ المائة بيت وينشدها ارتجالا في آن واحد، فيخال السامع أنَّه كان يحفظها منذ مدَّة من دون اعمال فكرة أو رؤية، وكان له اليد الطولى في الموال، والأبوذيه، والمربع، والميمر)). ويقول الدكتور عبد الإله الصايغ: " هو أكبر شاعر شعبي في العراق، وقصائده.. تدوّي على كلِّ الشفاه )). ويرى السيد محمد السيد جدوع أبو زيد في تقديمه لمؤلف " الشاعر الحاج زاير الدويـﭻ " للباحث صادق حمودي: "يتصف الحاج زاير بخصائص فنية متعددة، في مقدمتها انه كان سريع الجواب، مليح النكتة شعرا كانت أم نثرا. وبهذه الصفات كان موضع احترام.. الأدباء في انحاء الفرات الأوسط كافة)). أما مظفر النواب فقال فيه ما هو ابلغ واصدق: (( الحاج زاير هو معلمي الأول شعريا )).
تميز الحاج زاير بصفات قلما توافر نظيرها في شخصية شاعرة، فقد عرف برهافة حسِّه، وسرعة بديهته، وسعة ثقافته. وكان مطلعا على الشعر العربي القديم، وملمَّا بالشعر الشعبي وفنونه. ويبدو أن سنوات فتوته في النجف، وكانت آنذاك عاصمة العراق الثقافية، وتنقله بين منصاتها الدينية والثقافية كان لها كبير الأثر في تكوين واغناء معارفه، وفي صقل موهبته وانضاج مشروعه الشعري.
(تجدر الاشارة الى انه كان معروفا كذلك باجادته الطرفة، وتعقبه النكتة، وقد يختلقها اختلاقا شعرا أم نثرا، وكانت لها اشكال عديدة في شعره تستوجب دراسة خاصة. وقد احتلت السخرية السوداء مساحة مهمة في شعره.)
ومكّنه امتلاكه الجرأة في الكتابة، والرؤية الواضحة في تناول الموضوعات، من تأشير كوامن النفس الانسانية، والاشكاليات الاجتماعية المختلفة، وجعل من خطابه الشعري مرآة حقيقية لهموم الناس وما يكابدون من ضغوط اجتماعية متنوعة. وغدا شعره سجلا حقيقيا لتجارب وعادات وتقاليد الناس في عصره، وصورة لطبيعة الحياة آنذاك. ومن اجل ان يكون شعره قادرا على اشباع التوقعات الأشدُّ تنوعا لدى جمهوره، حرص على جعل تأملاته الآنية مكتظة بالأحداث والوقائع، ناحيا في بعض جوانبها منحى تطهيريا، وفي البعض الآخر منحى استشرافيا لحوادث لمِّا تقع. وهذا التمثّل غالبا ما يفصح عن الدور الذي ينهض به الشعر في استكناه المستقبل.
واتصف الحاج زاير بفردانية بين مجايليه من الشعراء، جسدها امتلاكه تمثلات الشعرية واشتغاله على الكثير من عناصرها كالقصة، والحوار، والتناص، والأمثال، وشيوع الحكمة في شعره وهيمنتها على العديد من اغراضه الشعرية. وقد عرف هذا التوجه الأسلوبي في شعره بمصطلح "الحكيميات"، ما دفع البعض إلى وصفه بـ "متنبي الشعر الشعبي".
وهذا التوجه دفعه إلى التجريب والابتكار في أساليبه الكتابية لغة ومضمونا، فقد كان نزّاعا إلى الكتابة خارج الأنماط التقليدية، وكان مشغله الشعري يدشن انماطا مبتكرة لم يسبقه إليها شاعر، وكانت الأنا الجمعية هي المهيمنة على شعره. ودفعه هذا التمثُّل إلى الاقتراب بلغته من لغة الشارع، بعد أن شذبها وهذبها من الألفاظ الموغلة في العامية، واقترب بها من اللغة الفصحى كثيرا (وهذه من سمات التحديث في ما وراء الحداثة).
كان الحاج زاير أول من كتب الموال بعشرة أشطر، وأول من نظم الأبوذيه على حروف المعجم، فضلا عن اجتراحه وزنا في الشعبي عرف بـ "وزن الشبـﮕهه" وهو من مجزوء بحر البسيط. كذلك لم يعرف لشاعر قبله طور في الغناء عرف باسمه، وهو "الطور الزايري".
ولم تقتصر مواهبه المتنوعة عند هذه الحدود، فقد كان حضوره حفلة عرس أو ختان في قصر شيخ من الشيوخ في الفرات الأوسط، مناسبة تجعل الأمسية من ماتع الأماسي، تُسمع فيها اشعاراً زاخرة بالجدة والطرافة، ويُستأنس بسماع ضروب الغناء العاطفي وأكثره إثارة. ولم يكن الحاج زاير يحسن الغناء ويجيد التوقيع على الطبلة مع الحركات الراقصة وحسب، بل كان حتى يرتجل الشعر ويلحنه ويغنيه في الحين نفسه، وقد يكون ما يقدمه في تلك الليلة موازيا لنتاج فرقة موسيقية.
وكما كان المتنبي مُهابا من الشعراء في عصره، كان الحاج زاير مهابا من معاصريه الشعراء. فلم يكن بمقدور أحد منهم مجاراته ومباراته، ومن تمنيه نفسه بذلك سرعان ما يخلد إلى الصمت. وكانت غالبيتهم تتحاشى سطوة لسانه اللاذع.
هذه الوقفة السريعة في مئوية الشاعر الكبير الحاج زاير الدويـﭻ لا تفيه حقه، فهي مجرد تذكير بأنَّ لنا شاعراً فارعا رحل قبل قرن من الزمان، وما زال قيد استذكارنا. وها نحن اليوم نستحضره ونتحدث عنه واليه بهذا الشكل المتواضع وكأنه بين ظهرانينا. وكانت الجمعية العراقية لدعم الثقافة تتهيأ بالتعاون مع بعض النقاد والباحثين في الأدب الشعبي، لاقامة استذكارية تليق بمقامه الشعري الكبير، وقد حددت لها بالاتفاق مع الأمين العام الراحل لاتحاد الأدباء والكتاب في العراق الصديق الشاعر ابراهيم الخياط موعدا في 15 تشرين الثاني الماضي. لكن وقائع الحراك الشعبي واحداثه وتطوراته فرضت التأجيل، على امل العودة الى الوفاء بحق الشاعر الكبير علينا في السنة المقبلة.