حينما تسمر الصبي بأعوامه العشرة وسط الجموع المنبهرة بالخطاب السياسي الذي كان يلقيه بحماسة وصوت دافئ ومحبب " الأستاذ " كما كانوا يسمونه، لم يدر بخلده انه سيكتب بعد خمسة وعشرين عاما اطروحته المطولة التي قامت فصولها على دراسة تفاصيل وحقائق وبديهيات استقاها من مقولات الرجل الذي كان يقف قريبا منه مندهشا من قدرته على ارتجال الكلمات التي لايعلم " كما فكر يومها " من اين يأتي بها وهو يرتبها بقوالب سهلة وموضوعة في اماكنها الصحيحة. كذلك لم يدر في خلد الصبي انه سيقع في غرام ابنة ذلك الرجل التي كانت تقف مبهورة وهي تدير نظرات الاعجاب في وجوه المتحلقين حول الأب الذي كان يقف بزهو وسط حلقات من المعجبين والمنصتين لما يقول " الشعب مصدر السلطات.." لم يفهم الصبي يومها معنى كلمة الشعب وكذلك كلمة السلطات لكنه فهم كلمة " مصدر " كذلك لم يدر بخلد تلك الفتاة المنبهرة بابيها وصوته الرنان وهو يردد كلمة " الثورة " و " الصورة " و " الممكن".. انها ستتزوج الصبي الاخرق الذي كان يقف قربها وهو ينقل نظراته بينها وبين أبيها، ربما كانت تنتظر منه أن يحدثها عن انبهاره بالأستاذ، وكم كانت تود أن تخبر من حولها أن من يتحدث لهم هو استاذها وحبيبها ومن يغدق عليها الكثير من الاهتمام، ولم يدر بخلد الاستاذ ان خطابه " عن ثورات الشعوب .. وضرورة التغيير " هذا سيكون موضوع اطروحة دكتوراه سيتقدم بها من سيكون صهره " الصبي الاخرق الذي يرتدي دشداشة عريضة ويقف قريبا من ابنته ولايرفع نظراته عنها " ولم يكن يعلم ان اجهزة التسجيل السرية التي كان يحملها رجال يرتدون معاطف رمادية كانت تدور وهي في جيوبهم تلتقط كلماته كلمة كلمة.. كذلك لم يكن يعلم ان خطابه هذا هو الاخير في حياته ... لانه بعد ان انتهى من خطابه اقتيد الى مكان مجهول ولم يعلم مصيره أحد حتى يومنا هذا.. وهذا ما كتبه الصبي الصغير الذي تزوج فيما بعد ابنة الاستاذ في مقدمة اطروحته التي طبعها بعد خمسة وعشرين عاما مذ وقف مذهولا أمام الاستاذ، ولهذا تضمنت اطروحته عن " الاستاذ " الذي تعلم منه لاول مرة معنى كلمة " الشعب.. والحرية والثورة ".
كذلك لم يدر في خلده يوما ما، أن موضوع اطروحته سيكون مثار استفزاز رجال المعاطف الرمادية، وهذا مادعاه الى اختصار موضوع اطروحته التي تتحدث عن "الحرية في الخطاب الذي يتضمن الثورة والتحرر وحركة التاريخ حيث مصائر الشعوب التي تتقاطع مع السلطات الدكتاتورية" وهذا الخطاب هو الذي تحمست له ابنته الصغيرة وهي تستمع لكلمات أبيها، ولم تكن تعلم كما حدث لجدها ان هذه الكلمات ستكون اخر الكلمات التي تسمعها من فمه، رغم ان فتى بعمرها كان مشدودا اليها والى الخطاب، فكان بين أونة وأخرى يرمقها بنظرة تجعلها تحس بالقشعريرة، راقبت بشغف نظرات الشاب وبذات الانفعالات كانت تطالع مجموعة من الرجال وهم يقتادون اباها الذي كان يسير وسطهم ولم يلفت انتباهها في المشهد إلا رجال يرتدون معاطف رمادية وهم يخفون تحتها اسلحتهم الرمادية، وتلويحة من ابيها مشفوعة بابتسامة.
ضد النسيان.. الخطاب
- التفاصيل
- محمد علوان جبر
- ادب وفن
- 1393