إلى حد ما، فإن قصيدة سان جون بيرس تنتظم مشاهدها الشعرية من أجزاء غير متناسقة المعنى اعتمادا على العقل الباطن الذي يفيض بغير معنى الواقع، فالصور الشعرية مثقلة بالصفات الحسية والتي تُنتج من خلالها الصور المكثفة لإدامة هلوسة المعنى في تفاصيل لا تنتهي، ورغم الإطالة بها والدوران في محيطها وما هو مألوف منها لكنها بعيدة عن الفهم ومرمزة، وأحيانا تستدعي الخوض في معرفة اللغتين العلمية والأدبية وإدراك خصائص كل منهما ومتحولاتهما أثناء الاستخدام.

إن مشاهد صور بيرس الشعرية سرعان ما تُلوح بالغموض والدهشة وهي صور لا أبالية أمام أي شيء وليس هناك أي نظام معين يمكن الولوج منه إلى هذا العالم سوى الرغبة في تصعيد التوتر والقلق إزاء الحشد الهائل من المتضادات غير المتوقعة والمتأتية من نصف لغة واضحة الى نصف لغة غير واضحة. فعالم بيرس هو عالم لم يخلق ليواكب الحقيقة، بل هو عالم خلقه الخيال من الخيال، ولن تخضع الطفرة فيه إلى عالم المصادفة بل الى عوامل الهروب منها والتي تمت أصلا بالاحتجاب أمام المتواصل المرتبط المعلن عن فهمه.

في قصائد بيرس يتحرك اللاشعور لتسوية الأفكار المجردة ليمارس حريته على اللاشعور في عملية اصطراع الصور الشعرية بعضها مع البعض وسط عتمة الأشياء التي يريدها الشاعر أن لا ترتبط الواحدة بالأخرى كي لا يكون هناك وجود للمثال الأعلى المُعوّم من الأعراف والقوانين والموروثات الاجتماعية، ومن اللغة البائدة التقليدية التي لن يكون لها شكل مغر في ذلك النسق العجيب من التنافرات. إن سان جون بيرس – واسمه الحقيقي سان ليجي والمولود في عام 1887 – قد درس الحقوق وعمل في السلك الدبلوماسي، ولم تؤثر في شعره فترة الانتقالات التي قضاها ما بين بكين وواشنطن لكنه وبالتأكيد شأنه شأن أي من الشعراء الذين لا يَّدعون مثل هذه الفرصة دون التأمل العميق بها لحشد الذاكرة بأصناف من المشاهد الحية وكانت إطلالته الشعرية الأولى في العام 1911 عبر مجموعته الشعرية "مدائح" التي عبر بها عن مفهوم الحداثة في الشعر وفق تنظيره ومفهومه للقصيدة الحديثة التي أشرنا الى صفاتها، وعلى الرغم من هذا المنتج الفعال والمغايرة الجديدة التي تضمنت هذه المجموعة لكنها لم تكن أهم ما كتبه بيرس. وقد توقف عن كتابة الشعر بعد "مدائح" لفترة زمنية تكاد تكون قياسية ضمن توقفات شعراء آخرين عن الكتابة. ولاشك أن لهذا التوقف أسبابه في حياة بيرس منها الأسباب العملية ومنها الإبداعية، ثم عاد الى الكتابة فأصدر في العام 1924 أي بعد هذا التوقف، كتابه الشعري الجديد "صداقة الأمير" الذي أراد فيه وعبر قصائده أن يعبر بقوة عن مفهوم الخيال المتسلط إذ يضيع فيه المكان ويصبح مجرد تسمية لا صلة لها بالمعنى، لتستمر الروح في التدفق في غياهب لا مرئية لتكتنف اللغة أنواع من الضبابية، وبذلك تكون صداقة الأمير قد حفلت كليا واحتضنت العالم الخارجي وتقربت من التعبير اللاواعي عبر التفاصيل الطويلة المتعددة المعنى.

وعاد بيرس الى الصمت من جديد، صمت طويل امتد الى ثمانية عشر عاما، كان صمتا مؤثرا وبليغا في ذاته المطبقة على أسرارها المعتكفة في دهاليزها المتمردة على شكل تمردها غير المرضي ليعود وفي عام 1954 الى الكتابة بعد فترة الانقطاع تلك ليكتب “أنا باز” التي تعتبر من أهم أعماله التي كتبها، واستطاع ان يبعث فيها القوى السحرية المعتمة وسط أجواء مخيلته، ويديم ذلك التنكر أو بالأحرى ذلك العداء للعالم المحسوس الكريه، وبعد هذا العمل المكثف ترجمت قصائده الى الإنكليزية حيث ترجمها أليوت، والى الإيطالية ترجمها إنجارتي، والى الإسبانية ترجمها جيان، والنمساوية وترجمها هوفمنستال، وترجم أدونيس "مدائح" الى العربية. وكل هؤلاء من الشعراء الذين أسسوا للحداثة وتعاملوا معها في بلدانهم تأتي هذه التراجم للإقرار بأهمية ما يكتبه بيرس من منتج شعري جعله واحدا من جيل المغامرة الشعرية رغم ما كتبه جيله من الشعراء الفرنسيين ضمن المناخ الجديد في فرنسا، حيث كتبوا بشكل مغاير انعكس ذلك على تاريخ الشعر الفرنسي خاصة والشعر العالمي بشكل عام.

لكن بيرس امتلك قوة الإرادة في إفزاع مخلوقاته التي أوصلها حد القبول بالسُّخرية الناتجة عن المفارقة بين قطبين غير متشابهين، ولا يمكن جمعها في حالة المنطق:

أيها الجفاف … يا نعمتنا

يا شرف وبذخ نخبة بعينها

حين يمدد قوسه فوق الأرض

سنكون وتره القصير وارتجاجه البعيد

الجفاف نداءنا واختزالنا

فلتضيء بدواخلي مساحة الممكن كلها

أتخذ كحرف صامت أساسي

تلك الصرخة البعيدة لولادتي.

إن الشعر الذي كتبه بيرس ناتجٌ عن أشياء لا يراها ولا يحفل بما يراه، وليس هناك من متوقع غير إدامة غيبوبته في عالم المجهول لخلق طبيعة جديدة من مجهول جديد.

عرض مقالات: