في مجموعة "أخاديد في وجه الذاكرة" للقاص رسول يحيى، نجد إن الأنساق الحكائية التي سادت أجواء هذه النصوص، تنوعت بتنوع ثيماتها والمشاكل والإرهاصات التي عالجتها، والتي تمثل بعض المشاكل  التي عانى منها المجتمع العراقي، نتيجة الحروب والأزمات التي مر بها في العقود القليلة الماضية، حيث امتدت ضمن حيز اجتماعي وسياسي متنوع "أدب الحرب، قضايا المرأة، الاستبداد" بعضها حمل دلالات رمزية، تنطلق من الخاص الى العام، نحو فضاءات أوسع وأشمل من حيز الثيمة التي تناولها النص، وأخرى حملت طابعا واقعيا انطباعيا، غلب عليه ذكر الأسماء، وأسماء الأماكن، التي لم يكن هنالك مبرر لذكرها، واقتناص مشاهد حية من الواقع بعناية.

كان معظم أبطال النصوص هم ضحايا لهذه الأزمات، ويعيشون تداعيات حرة، ناتجة من تراكمات نفسية، خلقها وعيهم الحاضر، فجعلهم أناسا مسلوبي الإرادة، تتحكم بهم مصائرهم وأقدارهم التي افرزها واقعهم السياسي والاجتماعي المأزوم .. استخدم القاص تقنيات  "القفز والانتقالات المكانية والزمانية  السريعة والتداعي الحر والمنولوجات الداخلية والمشاهد الصامتة" للتعبير عن هذا الكم الكبير من الحزن والإحباط، الذي تحمله تلك الشخصيات وعن الأمل المشوب بالخوف والترقب، الذي رافق حراكها، عبر مفارقات حياتية آنية جعلت، بعضهم يعيش لحظتين متقاطعين في آن معا "الفرح والحزن، الأمل والقنوط، الحب والفشل".

شكل أدب الحرب رافدا أدبيا مهما للسرد العالمي الحديث، واخذ حيزا في الذاكرة الجمعية للإنسانية المعاصرة، وخاض في هذا المضمار كتاب سرد عالميين كبار، تركوا بصمتهم في تاريخ الأدب العالمي، أمثال "ارنست همنغواي، تولستوي، جورج اورويل، قسطنطين جورجيو،...."، أسس هؤلاء وغيرهم لهذه المدرسة السردية، من أوجه عدة، تجلت عبر تمثلات، بعضها انطلق من تصوير مباشر لأحداث الحرب، ونقل صور حية عنها من قتل ودمار.. وآخرين نقلوا الجانب الآخر منها، الذي تمثل في تداعياتها وآثارها على الإنسان والمجتمعات التي عانت منها، وما تخلفه تلك الحروب من ماس وأحزان ومشاكل اجتماعية ونفسية.. وأدب ما بعد التغيير في العراق، ما بعد 2003 اهتم بهذا النوع من السرد، كنتاج طبيعي للكم الكبير الذي عانى منه الشعب العراقي من الحروب العبثية، والأزمات والانتكاسات التي تلتها، ويمكن ان تعد مجموعة "أخاديد في وجه الذاكرة" جزءا من هذا النوع الأدبي، فقد ضمنها رسول يحيى نصوصا عدة تناولت جوانب عدة من الحرب، منها بصورة مباشرة وأخرى بصورة غير مباشرة،  لتأثير تلك الحروب وتمثلاتها، وتأثيرها الاجتماعي والنفسي.. كما في قصة "سجع الحمام" والتي تحكي قصة جندي كلف بإيصال جثمان زميله الذي قتل في حرب الخليج الأولى إلى ذويه، مفارقة حياتية صنعها القاص عبر طرح فلسفي جعل من الحوار الذي دار بين هذا الجندي ورئيس عرفاء الوحدة نافذة له:

- ياسر قل عمك مال الله لا يحبك، هذه إجازة أربعة أيام ترتاح من جحيم الجبهة قرب عائلتك.

ألوذ بالصمت، كان أفضل خياراتي أمام رعونة وحمق نائب ضابط مال الله واستخفافه بالمهمة.

كان نصا واقعيا ذكرت فيه أسماء الأشخاص والأماكن، التي مثلت بعض مناطق بغداد الشعبية ومواقع لجبهات القتال، والتي كان بإمكان القاص الاستغناء عنها وعدم ذكرها .. مثل هذا النص عملية تبئير اجتماعية، لواقع عاشه جزء كبير من العراقيين إبان الحرب، وتصوير لحجم المأساة التي أحدثتها.

قصة "قزحية الجسد" يشير هذا النص الى البعد الآخر من المآسي التي تنتجها الحروب.. لحظة من التداعي الحر يعيشها جندي فقد القدرة على الحركة، نتيجة إصابته في إحدى المعارك، خسر على أثرها زوجته التي هجرته بسبب تلك الإصابة وعجزه الناتج عنها.. كان مشهدا صامتا، استخدم فيه القاص تقنية الاسترجاع، ليعود البطل بذاكرته المتعبة الى سنوات طفولته الجميلة البريئة، وحلمه بالعودة إليها "تتحفز حواسي لصورتي وأنا طفل مع شقيقاتي وأطفال الجيران بعد الإفطار في منتصف شهر رمضان الكريم شوارع محلتنا نطرق الأبواب..."،  ينتهي هذا النص بلجوء البطل إلى أمه، كملاذ أخير يحتضن حزنه السرمدي، ونلاحظ في هذا النص وبعض نصوص المجموعة ان الأبطال ينزعون في ميولهم اتجاه أمهاتهم نزعة اوديبية، كنوع من التعويض النفسي لديهم.. ومحاولة منهم للهرب من واقعهم المرير ولملمة جراحاتهم والسيطرة على قلقهم ومخاوفهم، كما في قصص "رسالة دموع حزينة، همزة وصل، صمغ الحياة، قزحية العين، سجع الحمام، يوغا، هرج الظلام".

"قصة دموع حزينة" التي تحكي قصة الطفل الذي فقد أباه في حرب الخليج الأولى.. تصوير متقن لعملية توازي بين متناقضات اجتماعية آنية، عاشها المجتمع العراقي في ظل الحروب، إطلاق نار وأفراح وأهازيج فرح عارم، يعم البلاد لانتهاء الحرب الماراثونية التي أهلكت الحرث والنسل، وفي الجانب الآخر تقبع أرملة حزينة فقدت زوجها في هذه الحرب، مع يتيمين تبكي حظها العاثر، ومستقبلها المجهول المعالم، تكررت هذه المتوالية العراقية في قصة "همزة وصل" متناقضات تخلفها الحروب، وتفرضها على الواقع عنوة.. الشاب الذي جاء إلى أمه فرحا بعد نجاحه في الامتحانات النهائية للدراسة الإعدادية، وتخطية عقبة أن يكون راسبا ليصبح جنديا ووقودا لحرب الخليج الأولى.. كان المشهد يصور فرح أمه الغامر بهذه النتيجة، ومشاركة بعض الجيران بهذا الفرح، وفي الجانب الآخر يصور القاص مشهدا مغايرا للجو العام  للحدث الرئيس، حيث تقبع إحدى جاراتهم في بيتها باكية ابنها الشاب الذي فقدته في هذه الحرب، منذ مدة قصيرة.. في تصوير مشوق استطاع من خلاله القاص خلق صورة موازية للحدث، لكنها تتقاطع معه إنسانيا، مما ولد مشاعر متناقضة وليدة اللحظة عند الجميع، بين الخوف والثقة بالنفس، الفرح والحزن، الأمل والخيبة.. "خرجت أمي من باب المطبخ، وهي تلوح بفوطتها البيضاء وتهلهل وتنثر "الواهلية"، وكانت مدعاة لخروج الجيران".

كانت اللغة من أهم الإشكاليات التي رافقت المجموعة، فبالرغم من نخبويتها وشاعريتها وقدرتها على تصوير قصدية النص، وإبراز النزعة التيشوخوفية التي عاشها معظم أبطال النصوص، من حزن وألم وخيبة..  لكنها اقتربت من القصيدة النثرية السريالية، وقد يكون هذا الأمر يشكل عاملا ايجابيا، فيما اذا كانت هذا النمط من اللغة يعبر عن وجهة نظر الكاتب نفسه، أي يشكل الجانب السردي لراو عليم خارجي، كما يعبر عن ذلك الناقد حمدي مخلف "يجب ان تكون اللغة في القصة، مجموعة جمل شاعرية، تخاطب القارئ بإحساس مرهف".. لكن المشكلة كانت، بان هذه اللغة الشاعرية المتقدمة ، استطالت الى السارد الضمني، أي عندما اصبحت إحدى الشخصيات القصصية، تقوم بدور السارد داخل النص، وقد تكرر هذا الأمر في عدة نصوص من المجموعة، بصورة ملفتة للنظر، وهذه الإشكالية كان يجب تداركها من قبل القاص، بان يضع حدا ثقافيا ومعرفيا فاصلا، بينه وبين أبطاله، الذين انطلقوا في تصوراتهم وآرائهم وتحليلاتهم للواقع وتعاملهم معه، من وعي استثنائي نخبوي، مع جهلنا كقراء بمستواهم الثقافي والتعليمي والبيئي، وهذه الإشكالية هي فخ سردي يقع فيه الكثير من كتاب السرد دون الالتفاتة إليه، بالرغم من أهميته ومحوريته في الفن القصصي، فمراعاة جوانب  "العمر والجنس والمستوى الثقافي والمستوى التعليمي والبيئة الاجتماعية" للشخصيات القصصية أشياء ضرورية ومهمة لتحديد طبيعة اللغة التي تتحدث بها، لتأخذ النصوص بعدا واقعيا ينسجم مع طبيعة السياق العام للأحداث والبيئة والشخصيات.. وسأضرب عدة امثلة على ذلك:

1- عندما كان السارد خارجيا عليما: في قصة  "سنة حب".. كما في النص الآتي "نائمة ويدها تتوسد وسادته... اقترب منها، وضع رأسه قبالة وجهها، استنشق أنفاسها، تخرج دمعة تفك أسرها تمر من اشفار العين..."، نص حمل لغة شاعرية لوصف صورة معبرة لمشهد رومانسي عاطفي، وفق القاص في تصويره عبر شاعرية مفرطة وتصوير سيميائي، تمثل بمجموعة من الانتقالات اللغوية والحسية السريعة، استخدم أفعال إرادة متتالية، لتعضيد الصورة "اقترب، استنشق، تخرج، تمر، ترسم، تقطر، يدس، يلامس، يشم، تنسم..".

في قصة "حلم امرأة عذراء" نجد ان هنالك لغة متقدمة نخبوية، أراد من خلالها القاص استعراض قدراته اللغوية والأدبية، ورسمه صورا ذهنية جميلة، مستخدما اللغة كأداة فعالة لتحقيق هذا الغرض.. كما في هذا المشهد من القصة "توحد صوتها بجدران تنث الغبار كنثيث السماء ثلج، حتى عجن مع ذراته... لم يبق أمامها سوى السطو على مراتب الأحلام...".

2- عندما كان السارد ضمنيا احد أبطال النص: قصة "طعم شوكولاتة" تحكي قصة امرأة تعيش لحظات من التداعي الحر، وتيار وعي باطني، تستذكر فيه حياتها البائسة مع زوجها، تقرر بعدها الانتحار شنقا.. كان النص يمثل صرخة استغاثة لامرأة شرقية، كانت ضحية لعادات وأعراف تقليدية متوارثة فرضت عليها، ليس لها القدرة على الإفلات منها أو تغييرها أو القفز عليها.. استخدم القاص الرمزية للإشارة إلى أصل المشكلة، من خلال الانطلاق من الخاص إلى العام.. كما في النص الآتي، الذي تحاور فيه البطلة زوجها افتراضيا، عبر مشهد صامت "لا عجب فالتشابه واضح للعيان بينك وبين أخي، الذي يوسعني ضربا، كلما راني أقف قرب النافذة".

 كانت لغة البطلة طيلة مشاهد القصة لغة متقدمة مثقفة، صادرة عن وعي نخبوي، لكن القاص تجاهل أن يذكر أو حتى يشير من بعيد إلى مستواها التعليمي، وبيئتها الثقافية، التي انطلقت منها، التي عكست لغة متقدمة كهذه..  كما في هذا النص الذي يشير إلى هذه الإشكالية السردية  "كنت تصفني بأنني نجمة ليلية، أنارت سماء دنياك، تستنهض وهجا من جمر، فوران الشهوة المحتدمة في غفوة العيون واستسلام، رغبة الجسد الطافح في صمت لذة فريدة، تتوسد الأرض...".

في قصة "يوغا" التي كان بطلها صبي صغير، عشق طالبة جامعية تكبره بعدة سنوات، حمل النص بعدا غرائزيا فرويديا، ينطلق من ارتدادات الطفولة، وتأثيرها النفسي والسلوكي على هذا الشاب الصغير.. كان القاص موفقا في نقل الصورة والحدث، وترسيخ هذا الشعور الذي يتكرر عبر متوالية اجتماعية، لا يكاد مجتمع إنساني يخلو منها.. لكن اللغة التي تحدث فيها الصبي، هي الشائبة التي عكرت صفو وانسيابية النص.. لكنها لم تؤثر على  قصديته وغائيته.. حيث كانت لغته تنم عن مستوى ثقافي كبير، ووعي استثنائي، يفوقان قدراته، العمرية والذهنية والحسية والتعليمية، وكان بالإمكان استخدام لغة أكثر بساطة وسهولة، تليق بمستوى المتحدث.. أو أن يتولى القاص مهمة التعبير عن مشاعر بطله، وأحاسيسه اتجاه حبيبته.. لان هذا التناقض يعطي انطباعا للمتلقي، بعدم وجود انسجام بين طبيعة الشخصية، وما يصدر عنها، كما في النص الآتي  "من بعيد اسمع صدى خطواتها، المغلولة بسلسلة الأغلال، وهسيس شهقتها في الليل التحف حولها من خلال تفاصيل حلم لا يغادرني، بلبلة من داخل راسي يرتد صداها وترتطم بجدران التخفي، ارتدي كلماتي، انحت الحروف على شفاهي، أبوح لها مع نفسي، من انبثاق ومضة مراهقتي..".