ما بين الروايتين "الخراب الجميل" و"الذئاب على الابواب" ثلاثة عقود آو اكثر والعامل المشترك بينهما هو (الخراب) الذي عشناه ونعيشه وربما ستعيشه الأجيال القادمة بسبب المآسي التي فرضت علينا.
تأثيرات مفهوم (الأدب الذي لا يحمل هموم وشجون شعبه لا يعد أدباً حقيقياً)، ورواية الذئاب على الأبواب تحمل هموماً حقيقية ومأساة حلّتْ على رؤوس الآخرين من قبل مقاولي الحروب ضد إرادة الكادحين (في كل زمان ومكان نرى الفقراء يموتون جوعاً بينما الأغنياء يزدادون ثراءً فاحشاً )، كاتبنا وفّر الأدوات والشروط اللازمة لإنجاح روايته واستعاد بطريقة ( فلاش باك) بعض الأحداث التاريخية غير البعيدة لنكون على دراية بشخصية البطل واستعمل الخلفية البعيدة الملونة التي تمنحنا العودة السريعة الى الماضي والرجوع الى الحاضر بالسرعة نفسها مع تصورات رائعة وحقيقية تقلّك بسرعة الضوء من شقة بائسة الى علاوي الحلة والمثلث الحدودي وأيام الجامعة ودشنها بقصة خيالية في الصفحة ١٥٨ لاستخلاص العِبَر الموجودة فيها، واستعمل ايضاً رموزا تاريخية وتصرف بذكاء حادٍ عندما أخلى مسؤوليته ووضعها تحت مسؤولية (الراوي). يقول في هذا الصدد الشاعر والكاتب التركماني الراحل حسن كوثر (لستُ مسؤولاً عن تصرفات أبطال روايتي أنا صنعتهم ولهم الحرية الكاملة في قول أو عمل كل شيء)، بما معناهُ (إنَّ يوسف لا يمثلني إطلاقاً) وهو (حرفي ما يصنع سكيناً وهو غير مسؤول عنه انْ ذُبِح به أحدا أو قُطِعت به الفواكه والخضروات).
لقد تعرض الانبياء الى الغدر والاضطهاد والمطاردة والقتل من قبل غير المؤمنين برسالتهم السماوية العادلة، ومن هذا المحور صنع أحمد خلف أبطال روايته وأسماهم بأسماء الأنبياء ( يوسف ويونس وأيوب) تيمناً وتشبهاً بالأولين في تعرضهم لتلك الأحداث المؤلمة التي قصمت ظهورهم وجعلتهم يتركون أعز ما يملكون في وطنهم (كما ترك النبي محمد مكة) فذلك الحلاق هشام يودّع محله العزيز على قلبه ويرحل الى النرويج مُرغماً ويقول (كيف أنام دون انْ أستمع الى ام كلثوم والى أنغام عبدالوهاب) ويهدي ألبوماته الى يوسف وكأنه يقول له (الوطن والتاريخ والأصالة امانة في عنقك!) يوسف هذا الانسان الغريب والقوي والعنيد هو رمز الحياة في الوطن واستمرارها على الرغم من جراحاته المتواصلة (فقدان بيته وزوجته وابنته، الذئاب كانوا في بيته) ليكنْ كما يقول ( لَنْ اخاف منهم انهم اقدارنا وسأواجههم)، هنا حقق أحمد خلف هدفه المنشود وهو (الوطن سينتصر أخيراً) ريما يخسر معركة واُخرى ولكنه سيكسب الحرب الأخيرة حتماً اذا استعان بقوة الماضي الجميل وعبيره وعبقه يوسف فعل هذا أو وضع القدر أمامه ( عبير) لتذكره بأيام الجامعة مع هذا لم يثق بها تماماً ربما كانت طُعما لاستدراجه الى قدره الذي ينتظره حتى الان لم نعرف السبب الحقيقي لاستلامه رسائل تهديد بقتله وقتل أهل بيته! ربما كان عسكرياً سابقاً او يسارياً او اشتراكياً وهذه التهم بحد ذاتها كافية لتصفيته جسدياً لأن رفاقه عارضوا الغزو الأمريكي للعراق وهو لم يكن من عناصر النظام السابق ، مع كل هذا كانت عبير صادقة معه ووهبته العطف والحنان ونظمت بيته ورتبته وفتحت له جوهرة النساء - كما يقول يوسف - واستمعتْ له برحابة صدر، تترقب النهاية..
يوسف لم يكن من رجالات النظام السابق المهمين والمعروفين، ماذا فعل كي يستحق هذا العقاب؟ ربما هذا حال اليسارية المعتدلة (صديقه أيوب يقول يوسف يساري) الذي ورثه عن أبيه عندما انتصر الأخير على رمز الأرستقراطيين بصفعة قوية. ربما ارادَ أحمد خلف ان يطلعنا على معاناة يوسف المستمرة من حكم الانظمة المتعاقبة فكل (الذئاب عبروا الأبواب) هو الواقع المفروض في زمن الحروب وحسناً فعل أحمد خلف عندما استعان بالصورة الزمانية لتثبيت وقت انتقال البطل الى شقة بائسة في عمارة مترامية الأطراف أملاً بالهروب من عيون تراقب كل حركاته وتصرفاته للإيقاع به وهروبه ليس خوفاً بل لكسب مزيد من الوقت لمعرفة أعدائه الحقيقيين والسبب الرئيس لتصفيته جسدياً بـ (تهمة الوشاية) لكن من هم؟ ومن وشى بهم؟ وهل يستحق هو لقب الواشي الصغير والباغي والفاسد.. وعبرتْ الذئبة الباب، فهل هو باغٍ وفاسد وواشٍ حقاً؟
لقد أفادنا الراوي بما جرى للوطن من أحداث سبقت الاحتلال الأمريكي وبتفاصيل دقيقة جداً ونستطيع القول انها وثائق تاريخية تثبت تلك الفترة المظلمة من تاريخ الوطن،
وجاء طلب الراوي المغفرة بسبب التهديدات المستمرة ربما لانشقاقه عن جماعة فاضل نعيم وحزبهم (حزب الإنصاف والتقدم الاجتماعي) كانت بنا حاجة لهذه المعلومة ليتسنى لنا الخروج من الرواية بمعلومات وافية.. وأخيراً قرر يوسف المواجهة وإنهاء هذا الامر الذي جعله يشك في كل شي حوله، ليكن ما يكون، ولا ندري ما الذي جرى بعد ذلك وأعتقد جازماً بانه سيُقتل حتماً، وهل الخلاص من هؤلاء ليس امرا سهلا؟ يوسف لم يدافع عن نفسه أمامنا عن تهمة الوشاية او البغاء او الفساد وَلَمْ يقل لنا انها تهمة باطلة او حقيقة واقعة وعلى القارئ الذكي انْ يستنتج ذلك من تصرفات يوسف الشخصية.
ان (من الخراب الجميل) عندما كانت بغداد هي الأمان كله، الى خرابات متعددة غير جميلة ابداً (خراب المدن) (خراب الأرواح) (خرائب وفضلات) (خراب الفوضى) (أقصى الخراب) (خراب البيوت) (خراب يعمّ ارض السواد) و(ارواح الخراب، خراب البشر) (خراب الحطام ص٢٣).
من هنا بات من الممكن تحويل أحداث الرواية الى فيلم سينمائي آو مسلسل تلفزيوني لأنها ستكون إجابات صريحة لمعظم الأسئلة التي تدور في اذهان العراقيين جميعاً.

عرض مقالات: