كان شتاء عام 1963 - 1964 البارد جداً قد بدأ يطوي صفحاته في طهران، ولاحظت حركة غير عادية لدى أهالي المدينة. فقد أخذت طهران، شأنها شأن المدن الإيرانية الأخرى، تكتسب حلة الاحتفال برأس السنة الإيرانية الجديدة، أي عام 1343 الهجرية الشمسية، وما يطلق عليه عيد "النوروز"، ويعني اليوم الجديد، أو "دورة السنة" كما هو متعارف عندنا في العراق. ويقابل ذلك في التقويم الميلادي يوم 21 من آذار/مارس، حيث يتساوى الليل والنهار والذي يؤذن بحلول فصل الربيع. إن الإيرانيين يستخدمون الآن التقويم الهجري الشمسي عوضاً عن التقويم الهجري القمري. وقد جرى العمل بهذا التقويم في عام 1926 ليحل محل التقويم الهجري القمري الذي كان يجري العمل به منذ عهد ملكشاه السلجوقي (465 هـ – 485 هـ قمري) والذي عرف بالتقويم الجلالي. علماً إن المبدأ يبقى لدى التقويمين هو تاريخ هجرة النبي من مكة إلى المدينة. ويحتفل الإيرانيون في الأول من فروردين؛ أي 21 من آذار/مارس، باعتباره اليوم الأول من السنة الجديدة. إن هذا العيد مناسبة تقليدية وتقويم سنوي قديم لدى الفرس والأقوام الهندية الأوربية. ويعد هذا العيد أهم وأكبر الأعياد الوطنية الإيرانية. وترتبط بهذا العيد تقاليد وعادات وأساطير كثيرة لا تخلو من مآرب سياسية، أبرزها إسطورة "كاوه الحداد" وصراعه ضد الحاكم المستبد "الضحاك". وتحكي هذه الإسطورة عن تمكن كاوه الحداد من كسر شوكة الاستبداد وإزالة كابوس الظلم عن شعبه بعد أن أطاح بالضحاك المستبد. وغالباً ما ترتبط هذه الإسطورة بواقع حال الشعب الإيراني في عهود تعرض فيها للضيم وما أكثرها، حيث يجد الضحاك المستبد شبيهاً له في الشاهنشاهات والحكام المستبدين في مختلف العصور. إن هذه الإسطورة تحفز الإيرانيين بل وشعوب آريّة أخرى في الشرق الأوسط على الثورة ضد ظالميهم. وتسبق هذا العيد استعدادات من قبيل زرع الحنطة في الصحون التي توضع على مائدة العيد، ثم تؤخذ إلى البوادي في اليوم الثالث عشر من السنة الجديدة ليتم عقد أوراق الحنطة من قبل الصبايا والفتيات ليسعفهن الحظ في الزواج ولقاء المعشوق في السنة الجديدة. وفي ليلة الأربعاء التي تسبق السنة الجديدة، "شب چهار شنبه سوري"، يقوم الأهالي بتحضير أكوام الخشب والحطب لحرقها. وما أن يتصاعد لهيب النار حتى يقوم الأهالي بالنط على النار مرددين عبارة "زردي من آز تو، سرخي تو آز من"، وتعني بالعربية "اللون الشاحب الذي يكسى وجهي أقدمه لك، وأعطني لون لهيب النار الاحمر". إنه تعبير عن انتهاء فصل الشتاء، فصل الركود والسبات وبدء فصل الربيع فصل النشاط والخصب والحياة والخضرة. وترتبط بهذه المراسيم أساطير وأساطير. فإذا لمس لهيب النار وحرق لباس من يقفز فوقها، فإن ذلك دليل على غلبة العدو على القافز وتعبير عن الحظ العاثر. وإذا ما وقع الشخص وسط النار أثناء القفز فمعنى ذلك ان السعادة ستغمره خلال السنة الجديدة. أما إذا اصدر الحطب الأصوات أثناء الإحتراق فإن نصيب الرجل سيكون النجاح في رزقه، في حين سيكون نصيب المرأة الإنجاب. وبعد أن تنتهي هذه المراسيم المثيرة ويخمد لهيب النار، يقوم كل شخص بأخذ الرماد ويلفه بخرقة من ملابسه القديمة ثم يرميها في الجدول كتعبير عن إبعاد الغم والنحس عن شخصه في السنة الجديدة القادمة.
ومن التقاليد التي تمارسها الفتيات والصبايا في هذه الليلة مراسيم "قاشق زني"، أي الضرب بالملعقة. حيث تقوم الفتيات والنساء بالعزف بواسطة الملاعق الخشبية وهن يجبن الأزقة والحارات لجمع ما يتكرم به أهالي الحارة من هدايا وعطاء بدءاً من القند والنبات والحلويات وانتهاءً بالنقود والرز والحبوب والفواكه. ومن يبادر إلى تقديم هذه الهدايا فسيكون جزاؤه الثواب والسؤدد والنجاح، أما من يتردد في ذلك فلا ينتظره في السنة الجديدة سوى الأضرار والفشل والأيام النحسة.
انه تقليد جميل يدل على الحركة والتطور والتغيير والحياة، وليس عبادة النار كما يريد ان يصوره ويشوهه المتطرفون والقوميون المتعصبون عندنا. لقد كان العراقيون يحتفلون عندنا في بغداد بنفس المناسبة ويسمونها "چنبر سوري"، وهي تعريق لكلمة "چهار شنبه سوري" الفارسية، حيث تشعل الشموع على ضفاف دجلة الخالد أو توضع على خشبة لتطوف وتنحدر مع تيار النهر. وفي ليلة العيد تنصب مائدة مزدانة بصحون تحتوي على سبعة مواد يبدأ اسمها بحرف السين، مثل سكّة وسماق وسيب (التفاح) وسركه (الخل) وسبزي (الخضرة) وسنجد (نبك العجم) وسمنو (عجين الحنطة). إن عدد سبعة هو تعبير عن الكواكب السبعة التي ترد في الأساطير عامة. وتوضع على السفرة أيضاً نسخة من القرآن الكريم أمام مرآة وشموع ومكسرات وحلويات وقارورة تحوي على ماء تسبح فيه السمكات الذهبية الصغيرة.
ويوضع على حاشية السفرة وشاح يكتب عليه البيت التالي للشاعر الكبير سعدي الشيرازي:
ادیمِ زمین سفره عامِ اوست
بر این خوانِ یغما چه دشمن چه دوست
أي أن مد السفرة هو أرضية للجميع، حيث يتجمع حولها العدو والصديق على حد سواء. ويرتفع مع دورة السنة دعاء الإيرانيين التقليدي ملتمسين من الخالق ومتضرعين إليه:
يا مقلب القلوب و الأبصار
يا مدبر الليل و النـــــــهار
يا محول الحول والأحـوال
حول حالنا إلى أحسن حال
ويستمر الاحتفال بهذا العيد حتى اليوم الثالث عشر من السنة الجديدة، حيث يحيي الإيرانيون مراسيم "سيزده بدر"، أي "الخروج من البيت في اليوم الثالث عشر". وحسب التقاليد فإنه من باب الشؤم البقاء في داخل البيت في هذا اليوم. ولهذا يخرج الجميع إلى البوادي والحدائق والمنتزهات ليقضوا اليوم كله هناك. ويصادف هذا اليوم عندنا اليوم الثاني لما نسميه بكذبة نيسان أو كذبة أبريل المصادف في اليوم الأول من شهر نيسان/أبريل من كل عام. ولربما يشبه هذا العيد عيد شم النسيم عند المصريين. وصادف أن خرجت في هذا اليوم في رحلة مع خالي العزيز إلى مدينة كرج القريبة من طهران، حيث يرتفع سد كرج الذي يحجز المياه ويزود العاصمة بمياه الشرب. كان المكان مزدحماً أشد الازدحام بالقادمين من العاصمة وضواحيها، وقد وصل تعدادهم إلى مئات الألاف حيث تصدح الموسيقى في المكان، وتنتظم حلبات الرقص شرقياً كان أم غربياً ويتبارى المحتفلون بتناول النبيذ، بشكل لم أشهد له مثيلاً في أي ركن من أركان البلدان التي زرتها.
إهتم أدباء العرب بالاعیاد الفارسیة إهتماماً بالغاً وخاصة عيد النوروز. فسجلت كتب التاریخ والأدب ودواوين الشعر هذه الأعیاد بصورة دقیقة مبینة سننها وعادات أقوامها وما فیها من طقوس. وصّوروها علی أنّها رمز للخیر والمحبة والوفاق والحوار، ولم ینظروا إلیها علی أنها أعیاد لیست لها صلة بالاسلام وأنها عائد إلی العقائد "المجوسية" الفارسیة القدیمة. لذلك أنشدوا أجمل قصائدهم في مناسباتها، وزیّنوا بها دواوینهم وكتبهم. فقد نظم الشاعر البحتري أبو عبادة الوليد بن عبيد بن يحيى التنوخي الطائي (820م – 897م)، أحد أشهر الشعراء العرب في العصر العباسي شعراً جميلاً لنوروز يقول فيه:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً
من الحسن حتـى كـاد أن يتكلّمـا
وقد نبه النوروز في غسق الدجى
أوائـل ورد كنّ بالأمـس نومـا
يفتّقهـا بــرد الـنـدى فكـأنه
يبثّ حديثـاً كـان قـبلُ مكتّـما
ومـن شجـر ردّ الربيـع لباسـه
عليه كما نشـّرت وشيـاً منمنمـا
أحل فأبدى للعيون بشاشة
وكان قذى للعين إذ كان محلما
ورق نسيم الريح حتى حسبته
يجيء بأنفاس الأحبة نعما
فما يحبس الراح التي انت خلها
وما يمنع الأوتار أن تترنما
وما زلت شمسا للندامى اذا انتشوا
وراحوا بدورا يستحثون انجما
تكرمت من قبل الكؤوس عليهم
فما اسطعن أن يحدثن فيك تكرما
وینقل لنا التاریخ أن وجهاء المسلمین والخلفاء والسلاطین والامراء كانوا یقیمون الاحتفالات في هذه المواسم علی أنها أعیاد مباركة لا أعیاد لا تمتّ إلی الاسلام بصلة. وشارك الخلفاء العباسیون في إحیاء شعائر النوروز، وادخلوا سننه إلی قصورهم، واعتبروه عیداً رسمیاً یُحتفل به كل عام. ومن السنن والطقوس التي مورست في العصر العباسي: إشعال النار وصب الماء وتقدیم الهدایا وإقامة مجالس الطرب. ولم يكن ذلك طعناً في الإسلام وسلامة عقیدتهم واستقامة سیرتهم، بل هو تعبير عن التفاعل الثقافي والحضاري بین العرب والفرس عن طریق أعیادهم. وهذا التفاعل بین العرب والفرس یمثل واحدة من أبرز التجارب الانسانیة التي حصلت بین شعوب العالم من النواحي الثقافیة والحضاریة والاجتماعیة والسیاسیة والدینیة.