"الطبيعة وضعت الحدود لكل شيء!" ألنا أن نتذكر قول آلـﮕـزندر ﭙـوﭗ هذا في مطولته المشهورة

"مقالة في النقد An Essay on Criticism"؟..
ما يذكرني بقول بوب هو بعضُ رأيٍ أقرأه أحيانا هنا أو هناك عن رغبةِ البعض في ترشيق تعسفي لجنس أدبي الى حد تنتفي منه أساسياته فيصبح جنسا أدبيا هلاميا.. وأقولها صراحة.. نحن نفتقر على حد سواء الى: هضم ثقافة التجنيس الأدبي وهضم محدوديتنا أفرادا أيضا والاعتراف بها عند التعاطي مع خلق جنس أدبي. وهذا القصور في الحديث ذهب الى حد أن راحت تصدر أحيانا توصيفات للجنس الأدبي لا تعدو أن تكون إسقاطات مبعثها قصور في فهم التجنيس الأدبي الذي يعكس قدرات خالق الجنس الأدبي ومحدوديتها حين تتوقف عند جنس معين لا يستطيع تخطيه في الكتابة. وهذه المحدودية هي منطلق تصنيف الأجناس الأدبية وتوصيفها.
و لنأخذ مثلا على تصنيفات موازية في مجالات أخرى للإبداع غير الأدب. منها مثلا التصنيف الموضوع في عالم الرياضة للألعاب بحسب قدرة اللاعبين وطاقتهم.. ففي عالم الرياضة ثمة تصنيفات للعدو والعدائين، أو الملاكمة والملاكمين، وغيرها من الألعاب، بحسب طبيعة اللعبة ومتطلباتها وقدرات اللاعبين واستعداداتهم الفسلجية والمزاجية والنفسية.
و قد نجد لهذا التصنيف صنوا موازيا في الأدب، بموجب طبيعة الجنس الأدبي وشروطه، وقدرات الكاتب الفرد العقلية والمعرفية والمزاجية والجمالية التي تتلاءم مع خلق جنس أدبي محدد أو لربما تتلاءم لخلق أكثر من جنس فرد. ومثالنا هنا هو جنس السرد. فللسرد جنس أدبي رئيس، تتفرع منه أجناس يتحدد توصيفها عادة بحجم النص وطوله وعدد كلماته وبنيته وعدد الشخوص الذين يظهرون فيه والحوادث العرضية episodes التي يتشكل منها، فضلا عن حدود طبيعة السارد في طول نفسه وإمكانياته على التشكيل والمواصلة وميوله التي تصوغ ذائقته، فضلا عن خواص أخرى لسنا بصددها.
في الرياضة.. نذهب مثلا الى الملاكمة فنجد تصنيف فروعها يتوقف على وزن الملاكمين، ومثله في رياضة رفع الأثقال.. ففي رياضة العدو مثلا نجد لاعبين طاقتهم في المطاولة لا تتعدى الركض لأكثر من مائة متر، وآخر لمائتي متر، وآخر لأربعمائة متر، وآخر لثمانمائة متر، وآخر لثلاثة آلاف متر.. و.. و.. وينتهي بنا المطاف بذاك العداء الفذ الذي يركض أربعين كيلومترا فيما يسمى.. الماراثون!.. والتسمية هذه لم تأتِ اعتباطا، فهي أتت من قصة ذاك المحارب الإغريقي الذي انطلق من أرض المعركة في منطقة ماراثون راكضا الى أثينا ليبلغ أهلها بأنباء النصر، إلا أنه لفظ أنفاسه الأخيرة بعد وصوله الى أثينا وإبلاغه خبر النصر. ومنها سمي السباق المعروف في يومنا هذا!
تقنيا.. ثمة تحت يافطة "السرد narration" أجناس مختلفة للقص. وبإجرائنا تناظرا بين تلك الأجناس، نجد الأقصوصة (الومضة) mini-story مثلا، وكاتبها في العادة يناظر راكض المائة متر.. والقصة القصيرة short-story وكاتبها قد يناظر راكض المائتين أو الأربعمائة متر.. والقصة الطويلة novelette أو novella وكاتبها نظيرٌ لراكض الثلاثة آلاف متر.. وتأتي الرواية novel لتكون ماراثون السرد بإستحقاق، وكاتبها نظيرُ راكض الماراثون.
وقد تمتد الرواية أحيانا ليس الى مئات عديدة من الصفحات.. وعندها يلجأ الراوي الى تقسيم روايته الى عدة كتب.. منها مثلا "ثلاثية نجيب محفوظ" و"خماسية الساقية" المصريتين، و"ثلاثية نيويورك The Trilogy of New York" لكاتبها بول أوستر، و"رباعية الإسكندرية The Alexandria Quartet" لكتابها لورنس داريل، و"ملك الخواتم King of the Rings" لتولكين و"رباعية الواهب The Giver Quartet" لكاتبها لويس لوري.. و"ثلاثية النيل يجري شمالا" لكاتبها إسماعيل فهد إسماعيل و"خماسية السخط" و"ثلاثية بعقوبة" لكاتب هذه السطور.. وغيرها.
هذا هو الفارق بين راكض الماراثون الروائي وعداء أقصوصة المائة متر (عفوا أقصد المائة كلمة)!.. فهل سمعتم بعدّاء مائة متر يقترح تقصير ركضة الماراثوان؟.. لا أظن ذلك على الإطلاق!.
و لكننا قد نجد بين كاتبي الأقصوصة والقصة القصيرة من يعيب على الروائي إغداقه الكلمات لوصف يعمق من خلفية أحداث الرواية.. والغاية تقزيم الرواية!.. ورغبة في ترشيق تعسفي لجنس أدبي مثل الرواية أسوة بتقشفات الاقتصاد بقصقصة ما تحلق به من أجنحة، وتنتهي بجنس أدبي هلامي أو هجين!
أحدهم مثلا يريد من السارد الروائي حذف كل وصف والاكتفاء بالحوار بتحويل الرواية الى مجرد أحاديث هلامية لمسرحية فاشلة!. وآخر يطلب منه الاقتصاد حتى في حواره وتحويله الى رموز تشبه رموزا مستعملة هذه الأيام في الرسائل الرقمية وهذر الفيسبوك!.. وآخر يتمنى لو تختزل الرواية بقصة قصيرة!.. بل والبعض يريد أن يختزلها بأقصوصة أو ومضة!