قال لي بعد أن اطمأنّ إلى أنّي أستمع للسيّد محمّد النوري بلا توقيتات غير تلك التي يقرّرها خلگي حين يضيق بي وبالوجود كلّه:
ـ أتعلم بهذه الواقعة؟
قلتُ، وقد تيقّنتُ أنّه يوشك أن يفتح صندوق لآلئ:
ـ لا.
فقال اسمع:
ـ في العام 1965، كان السيّد محمّد يجلس في مقهى في قلب العمارة، فرأى هناك صديقًا له، وبادره بالقول:" إنّ السيّد صروط "عمت عيني طريح فراش"، وإنّه يتمنّى رؤيتك كي يطيب، فقد قال لجلسائه: كون يجيني سيّد محمّد چا طبت". فبادر السيّد محمّد من فوره للذهاب إلى المجر ومنها إلى العدل ثمّ إلى المضيف البهيّ على الواديّة، وكان عامرًا بالعائدين حين ولجه. ما إن رآه السيّد صروط حتى سأله:" يا سيد محمد وين چنت؟!" ردّ سيّد محمّد بالقول:" سيّد وجدّك ما أدري بيك مريض".
لم تطل جلسة السيّد محمّد، فقد أمره السيّد صروط بالنهوض ليسحگ رجليه. كان ممدّدًا على فراش وقد لفّ رأسه بشطفته السوداء، ووجهه نحو كوسر المضيف. امتثل السيّد محمّد، وزاد على الطلب بأن تناول مَهفَّة توسطت مربَّعَها تشكيلاتٌ قرمزيّة على صفرة السعف الميّت. برجله اليمنى سحگ ساقي السيّد صروط، وبيده اليمنى هَفَّى على وجهه. ثم حين يئس السيّد صروط من الخطوة التي ينتظرها قال للسيّد محمّد بصوت خفيض:" وهاي هيِّه؟!!" فقال السيّد محمّد:" گول سيّد، شسوي؟!"، قال السيّد صروط:" بروح ابوك سيّد كاظم، أريد محمّداويّة تعبر الواديّة وتوصل للحجيّة وأم الرجلين". فقال:" ابشر". فغنّى السيّد بصوت ثري مفعم بلوعة فادحة يعرفها الجنوب كلّه، مستهلًا يقظته المباغتة بذريعة آه طويلة ممتدة. غنّى بصوت يعرف كيف يدير وجوه مستمعيه وبوصلات قلوبهم نحو ما يحتاجونه لمواجهة الأهوال أو الانخذال أمام عتوّها. صوت يرصّن النفوس ويهبها ثقة بأنها جديرة بالحزن، وأن لا خير في الدنيا أبدًا ما دام سيّد العدل والواديّة والشطوط كلّها مريضًا، صوت يشبه وجيب قلوب كثيرة انتظم نبضها على ايقاع واحد بمصادفة خلقتها مهابةُ المضيف العامر البهيّ. صوت يجبر الأيادي أن تمتدّ نحو الأفواه كي تمنع انفلات أنّة عالية أو حسرة حرّى قد تطيح ببواري المضيف وتزحزح شِبابه السامقات. صوت يعيد رسمَ خرائط جديدة للوجود كلّه فيبدو وكأنّه آيل للجنوب، للواديّة وللمضيف تحديدًا. صوت ينتهي إلى قناعة راسخة أن الناس مربوطون من آذانهم إلى الحياة بحاسّة السمع فقط.
كانت الآه الاولى، التي ابتدعها اولاد اختك البومحمّد، كفيلة بأن تخرس كلّ خلجة في أرواح مستمعيه، ومنهم السيّد صروط القريب منها، مهما استدقّت. ثم تلاها بأبوذيته التي عبرت الواديّة، كما أراد السيّد صروط أو تمنّى، فأبطأ الروج في مروره اللابط على الجرف القريب من المضيف:
الّلايم لو دره بالحال مالام
غير الحزن من دنياي مالام
صدگ بيت البخت والطيب مالوم؟
يندار المرض يا ريت بيّه
حمل صوت سيّد محمد الكثير في تعرجاته الصافعة للقلوب قبل الآذان، فأوصلها إلى الرضوخ لفجيعة وشيكة حائمة. صوت يُعلِّم أكثرَ مما تُعلّم الحياة نفسها، فيهب الناسَ الحكمة المدماة. صوت يلزّ الناسَ إلى محبّة متعجّلة، فلا يجدون أمام طروئها غير الدمع، يكتبون بمداده على خدودهم ما تيسّر لهم من آي فجائعهم. صوت يذكّر بخطيئة آدم، عليه السلام، الأولى، ويذكّر بالمآل المحتوم برغم محاكاته لنبض الحياة الزاخر بالحيويّة والنشاط في تلك البقعة البدائيّة من العالم. استمرّ المضيف ومن فيه على الوجوم الصامت نفسه حين أنهى السيّد محمّد أبوذيته، لم يعد يُسمع فيه غير حفيف هواء تقلّبه المهفّة أمام وجه السيّد صروط.. ثم دبّت الحياة والحركة فجأة، وانتبه الموجودون لما حولهم، فنظروا في وجوه بعضهم وإلى وجه السيّد صروط الذي أشرق بنور أجداده حين هبّ واقفًا من رقدته كالملدوغ وهو يصيح:" وجدّي طبت، وجدّي كلشي ما بَيّه".
***
كيف طاب السيّد الجليل بهذه السرعة؟ أيمكن أن يكون هذا العلاج امتدادًا للتداوي بالألم كما نفعل حين نكوي مرضانا بالنار؟ ما رأي الطبّ وعلم النفس؟ أيصلح الانسحاق أمام الغناء الورع وما يشيعه من إحساس بالهوان على الدنيا وسيلةً علاجيّة؟ هل أودعَ السيّد صروط كامل ثقته بالمطرب نفسه أم بصوته؟ وثمة أسئلة أخرى..
أشعر بزهو الفتوحات الكبيرة، أنا سلمان كيوش، لأنّي انفردتُ بتدوين هذا الخبر ..