لا توجد دولة من دون خطاب خاص بهويتها، ولا يوجد كيان معرفي من دون ان يكون له خطابه، وبالتالي فالخطاب الكلي للبلاد مؤلف من مجموعات لا حصر لها من خطابات مؤسساتها. فالعراق مثلا، ونتيجة لما يمتلكه من تراث أغنى البشرية قبل 7 الاف عام، فامتلك خطابا تراثيا ودينيا وحضاريا، وكان يخاطب العالم في ضوء انجازاته تلك. وشخص علماء الأنثروبولوجيا الثقافية، وادي الرافدين باعتباره الدائرة السادسة من دوائر الانثروبولوجيا في العالم، التي أسست له قواعد القانون والكتابة والفلك وغيرها، وامتلك العراق بالفعل هذا الخطاب، بالرغم من ادعاءات دول الجوار: تركيا وايران أنها أيضا من ضمن حضارة الدائرة الانثروبولوجية السادسة؟ أشك أننا نستطيع امتلاك ثراثنا، وأؤكد أن العراق، بالرغم من أنه يمتلك هذا الإرث العظيم اسماً، وأن الديانات فيه رافقت نشوء هذه الحضارات، ليس قادرا على إعادة تدوير خطاب التراث لصالح خطابه المعاصر.

الحقيقة المرة، أننا لم نعد إنتاج الخطاب الحضاري كما فعلت دول عديدة وشعوب مختلفة، واقربها إلينا مصر الحضارة والحاضر، كما أننا لا نملك خطابًا معاصرًا، بسبب أن الدين لا يؤلف خطابًا عالميًا بهوية وطنية، لأنه عقائدي وأممي النزعة، وخطابات العقائد شخصية وليست قوانين معرفية عامة تحكم الهوية والعرق واللغة والثقافة. كما أن العراق بهويات دينية وقومية مختلفة، ولذلك وجد صعوبة منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 وإلى اليوم في أن يؤلف خطابًا خاصًا بهويته التراثية.

 إن شكل خطاب العراق المعاصر، هو الثروة النفطية، وهذه الثروة التي بدأتها اكتشافات البعثة الألمانية في أواسط القرن التاسع عشر، وطورتها العقلية الغربية، لم تعد ملك العراق إلا بالجغرافيا. فمن يمتلك حقيقة هذه الثروة هو من يمتلك العلوم والتقنية والأسواق والتصدير  والسفن وخرائط البحار، والموانئ، والاستهلاك، وتدوير النقد، واستثمار الطاقة. والحمد لله نحن فقراء في كل هذه الحلقات، وقد أبقينا عقولنا تحديثية لا حداثية، بمعنى أننا نشتري ولا نصنع، فأبقانا الوضع الدولي ضمن منطلقاته ورغباته  الرأسمالية وتقلبات أسواقه، وان الصورة التي رسمها ويرسمها  الغرب للشرق، بما فيه مركز الشرق، وهو العراق، هي صورة البقرة الحلوب.

اليوم، وفي عالم يركز على الهويات المحلية لتأليف خطابه الخاص، لا نجد الأجنبي يخاطبنا إلا من خلال النفط، لأن خطاب التراث والحضارة غائب عنا، أو لا معنى له في عصر العولمة. ولايوجد لا في حياتنا ولا في درس جامعاتنا ولا في التقنية العلمية للسياحة ،أي تأسيس له، ولأن خطاب المعرفة والفلسفة والعلم لا تؤَّلف لغته العملية في العراق، لذلك لا يخاطبنها الغرب إلا من خلال الاستغلال والاستثمار والهيمنة. فالتراث لا قيمة له إلا في بلده، والحضارة لا قيمة لها إلا في أرض أنشاتها، ولما كانت الحضارة والتراث غائبين عن العراق، فحتى خطابهما لم يجد نفعا.

أما العلم فهو وحده الخطاب الذي يتجول في بلدان العالم كأي سلاح معرفي لا تنضب قواه ولا تكل سواعده عن العمل والتجديد. ويتحسس المعنيون بشأن هوية الخطاب الوطني، أن العراق عندما يمتلك خطابه الوطني الخاص عندئذ سيتغير خطاب الغرب معنا، وإلا سنبقى كما نحن مجرد ألعاب تديرها حلقة روليت بالدوائر الغربية، ودول الجيران الفاسدة التي لا تؤمن بالعلم والثقافة والتنوير إلا ضمن مصالحها الضيقة.

خلال الفترة التي سبقت 1970، نهض بعض ملامح الهوية للخطاب الوطني، ولعل مشروع عبد الكريم قاسم كان بدايته. لكنه أجهض بفعل التآمر الداخلي والخارجي. ففي تلك الفترة وضعت أولى النقاط على أرض العراق لتشكيل الخطاب الوطني غير المرتبط بدوائر الاستعمار الغربي. وكان هذا الخروج مروقاً بالنسبة لدعاة القومية العربية وللدوائر البريطانية والأمريكية. ومن عاش تلك الفترة شهد نزول الجيوش الغربية في لبنان وتركيا واسرائيل لإجهاض ثورة 14 تموز.

ولما قضي على تلك الشعلة التنويرية الأولى، ثورة تموز 1958، لم نشهد بعدها إلا خطابًا قوميًا متراجعا، توج بحروب عبثية لامعنى لها في العراق، وانتهى العراق بهوية ممزقة وموزعة بين الطوائف والمحاصصات والفساد. فبأي لغة سيخاطبنا الغرب ونحن نفقد خطابنا التراثي والوطني؟ لا شيء من هذا يحدث، فالتراث لا يشكل خطابًا في عصر العولمة، لأن التراث مادة عمياء آتية من زمن قديم، ولن يكون لها حضور إلا في حال تثوير مكوناتها وجعلها مزارًا سياحيًا للعالم. فالتراث ملك للبشرية كلها، وحتى في هذه الحال لم نستطع مخاطبة العالم من خلال عالمية تراثنا. لذلك بقي مغمورًا في مكامنه. وبقي خطابنا بلا هوية.

عرض مقالات: